Sunday, November 30, 2025

ذكريات إجبارية

غاصت مؤخرتي في المقعد الوثير في الصالة الفارهة للعملاء المميزين في البنك، وسرحت عيناي في الشاشات الإعلانية المحيطة بالزوار والتي أعتقد أن الهدف من وجودها كان تعريف الزائرين بأدوار تلقي الخدمة. ثم تحولت تلقائياً تلك المساحة المضيئة المخصصة للرقم إلى مربع صغير في الزاوية، وباقي مساحة الشاشة المهولة إلى إعلان عن بطاقات سحب على المكشوف، عندما يقوم البنك بإصدارها لك ستربح – وأنا أقتبس من إعلان حقيقي هنا – "شقة وسيارة ورحلة لقضاء شهرٍ كاملٍ في جزر المالديف".

وعلى الرغم من أن كمية الابتذال في هذا الإعلان فاقت الحدود، ولكنه – ويا للعجب – فقد صادقت إدارة هذا البنك على استخدامه، وأنا في الحقيقة لا ألومهم.. فقد علمت من أحد أصدقائي العاملين في أحد البنوك، وهم كثر، أن أرباح البنوك من بطاقات الائتمان تفوق أرباحها من أنشطة أساسية يفترض العميل أنها مجال نشاط البنك الحقيقي. ناهيك عن أني عرفت بعدها تعاون أصحاب تلك البنوك مع مؤسسات وهيئات مهمة على أن تقوم تلك الهيئات بقبول الدفع فقط عن طريق تلك البطاقات، فتغلق الحلقة على العميل الذي لا يجد بُدّاً من أن يستخرج تلك البطاقة الرائعة التي ستعود عليه بالنقاط والأرباح، والتي لا مأخذ عليها إلا أنها لا توفر العروس في هذا العرض المذهل.

 التفتُّ للناحية الأخرى فوجدتُ الموظفة ما زالت منشغلة مع عميلها الحالي. كنت أستطيع في الحقيقة أن أتوجه نحوها مباشرة، لكني فضلت أن أستريح قليلاً من المشي من المواقف القابعة في الجهة المقابلة لمبنى البنك والتي تتعدد أدوارها، وتصبح مسألة العثور على سيارتك صعبة إذا لم تتذكر في أي طابق وضعتها قبل نزولك إلى الطابق الأرضي، وهو ما حدث لي شخصياً غير مرة. ومن حسن الحظ كانت السيارة ممن تُصدر الأصوات عند ضغط زر ما في مفتاحها عن بُعد، مما سهّل المهمة إلى حد كبير.

 جلس بجواري رجل في منتصف العمر بقسمات لطيفة، بدا من لهجته أنه إما من جنوب الهند أو سريلانكا، وقد كان يبتسم ابتسامة عريضة وهو يهاتف امرأة ملىء وجهها شاشة الهاتف الكبيرة. ولم أتعمد حقيقة استراق النظر إلى هاتفه، ولكن اتساع ابتسامته أغراني بأن ألتفت إليه لفترة وجيزة.

بدا لي أنه ربما يكلم خطيبة أو محبوبة اضطرته الظروف إلى تركها هناك في بلاده الفقيرة، وها هو يريها عظمة المكان الذي يذهب إليه للعمل وكم الفخامة التي تحيط به.. ربما يبعث في لبّها إحساساً بأنه ينجز مهمته التي من أجلها تركها، واعداً إياها بالعودة يوماً ما.

 أخذتني الذاكرة إلى قصتي التي مرّت عليها عشرات السنين.. وكيف أني كنت – ويا لسذاجتي – ظننت أني ربما أقضي سنتين ليس إلا في جمع بعض المال لأليق بأسرة آنستي التي قررتُ الزواج منها.. وكم الطفولة في هذه القناعة، لا يكاد يُصدَّق في الحقيقة.

وسألت نفسي وقتها: كيف لم ينصحني أحد؟ وكيف لم آخذ الأمر بعين الاعتبار وأرى حقيقة أني أقود نفسي بنفسي إلى منفى اختياري؟ لكني لم أكن أعلم، ولا أظن أن أحداً ممن كانوا حولي كان يعلم أيضاً.. ربما كنت في غفلة الشباب، وهذا من حقي، فقد كنت شاباً في وقتها على ما أظن.

 دقّت رنّة ما أخرجتني من أفكاري لأتطلع إلى الشاشة الصغيرة أمام مكتب واحدة من الموظفات. لفت نظري اسمها غير المألوف وقدّرت منه أنها ربما باكستانية من مواليد البلد الخليجي الذي نعيش فيه، وذلك لأنها كانت تتحدث العربية جيداً بلكنة أجنبية أميّزها، وكان نصف شعرها الكستنائي الناعم المائل إلى الأصفر ظاهرًا من طرحتها الرقيقة الشفافة التي تغطي الجزء الثاني على استحياء بطريقة تميز النساء من هذه المنطقة من العالم.

حيّيتها وجلست طالباً منها بعض المستندات، وقد لاحظت ابتسامتها الواسعة التي ربما تكون نتاج خبرة في عملها كموظفة لخدمة العملاء في البنوك لفترة طويلة. وكاد الفضول أن يقتلني، فسألتها في معرض حديثنا عن مؤهلها العلمي، فقالت إنها خريجة واحدة من الكليات المرموقة للأعمال ولديها ماجستير في فرع من فروعها أيضاً.

كانت تتحدث بفخر جعلني أُشيد بتفوقها، لكني كنت في داخلي أتحسر على كل تلك المهارة والتميز التي ضاعت في جلستها في مكانها لتقوم باستقبال العملاء وطباعة بعض الأوراق وكشوف الحساب، واستخدام برنامج على الحاسوب يمكن لطفل في الثانية عشرة أن يستخدمه بمنتهى الكفاءة.

وبما أني كنت قد ناقشت نفسي في هذا الموضوع مطولاً معتمداً على ما حولي من دراسات ومعلومات، وكانت لدي نظريتي عن نظام التعليم المُعَدّ خصيصاً لتفريخ عمال ينتظمون داخل المؤسسات، ويكون لهم أقل القليل من الفضول، الذي أقصى حدوده يكون ميعاد ترقيهم لمرتبة أعلى بعد مرور عدة سنوات، ويتركون أمور التفكير والتطوير لملاك الأعمال الذين قاموا – وبنجاح – بالإنفاق على عملية تطوير هذا النظام التعليمي الداجن.

خرجت من أفكاري وهي تسلمني الأوراق التي جئت من أجلها. شكرتها واستأذنت ومشيت ببطء نحو سيارتي، وقد عادت لي ذكرى سفري تلح على عقلي.. ولأنها من الماضي ولأنني أحياناً أعجز عن تذكر هذا الماضي ناهيك عن تغييره، غضضت الطرف عنها ودلفت إلى سيارتي.

ثم مدت يدي لمشغل الصوتيات في بطء، ضغطت أحد أزراره فانسابت الكلمات وترنمت معها: 

"جيت على بالي كده من كام يوم.. قلت أما أسأل فينك..." 

Sunday, November 9, 2025

حلم على الورق

 استيقظتُ على أصوات الطبول وأنغام الآلات الموسيقية المختلفة.

يبدو أنه تدريب آخر للفرق المشاركة في المهرجان السنوي.

لم أفهم يومًا سبب تمسّك بلدتنا الصغيرة بإقامة هذا المهرجان الضخم كل عام. وكالعادة، ستتوقف كل مظاهر العمل لخمسة أيام متصلة. لم أكن من مشجعي المهرجان يومًا، ولطالما كان الزحام يرهقني ذهنيًا وبدنيًا. كنت أفضل أن أبقى في سريري أو في ورشتي المتواضعة على أن أختلط بتلك الحشود، أستنشق مزيج العرق والعطور وأتحمل ضوضاء البشر.

لكنني هذا العام أعددت خطتي جيدًا.

سأستغل المهرجان لأجرب مشروعي الذي أعمل عليه منذ شهور.

بعد الانتهاء من التهاني والمجاملات، سأصعد إلى "قاطرة القهوة" الرابضة فوق ساحة البلدة منذ أسبوع استعدادًا للمهرجان، وأطلق طائرتي الشراعية لأحلق في الهواء.

بلدتنا الصغيرة تقع في قلب الوادي، وأقرب التلال تبعد عنها عشرات الأميال. أفهم وجهة نظرهم في عدم إقامة مبانٍ مرتفعة؛ فالمكان فسيح ولا داعي لرفع الأعمدة. من أراد بيتًا، شيد آخر إلى جواره، أسرع وأوفر.

خرجتُ فوجدت الجميع مجتمعين في الساحة الكبيرة.

لطالما كانت هذه الساحة ملتقى للجميع؛ رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا. نجتمع فيها للسمر أو للتسوق في أول ثلاثاء من كل شهر، حين يعرض الأهالي مشغولاتهم اليدوية وبعض مقتنياتهم. أحيانًا يزورنا أناس من البلدات المجاورة لحضور هذا السوق المميز.

كل طرق البلدة مرصوفة بالبازلت الأسود. لا أدري متى تم هذا الرصف، لكنه بالتأكيد قديم جدًا. سألتُ جدّتي ذات مرة، فقالت إنها ولدت لتجدها هكذا. ربما كانت بلدتنا إحدى محطات طريق الحرير في الأزمنة الغابرة، وها نحن نسكنها حتى الآن.

ناهيك عن أعمدة الإنارة العتيقة الأنيقة التي تزين شوارعنا الواسعة والضيقة.

وجدت جمعًا من عائلتي وأصدقائي في الساحة، سلّمت عليهم فحيّوني بابتسامات عريضة، رددت بمثلها. سرعان ما بادرني أحدهم بالسؤال:

– هل قررتَ من ستكون رفيقتك في المهرجان؟

نظرت إليهم في غباء، ثم تذكرت فجأة: دخول قاطرة القهوة الطائرة مقصور على الأزواج فقط! كيف نسيت هذا الأمر المهم وأنا غارق في إعداد طائرتي الشراعية؟

انطلقتُ نحو الرصيف وصعدت عبر المصعد الدائري الواسع حتى وصلت إلى القاطرة.

ابتسم لي القائم عليها ابتسامة صفراء وهو يقول بلهجة سمجة كأنه يطردني:

– لن يبدأ العمل في القاطرة إلا بعد الغد، مع انطلاق المهرجان.

أومأتُ له بنفس الابتسامة وأنا أقول:

– أعرف، أعرف... لكنني أردت أن أسأل فقط.

كان منهمكًا في ماكينة تبتلع العملات المعدنية وترتبها، يتجاهلني تمامًا كأنني هواء.

لكني سألته بإصرار:

– هل شرط "الأزواج" هذا إجباري لدخول القاطرة أثناء المهرجان؟

فأجاب دون أن يلتفت:

– نعم، إجباري. والأفضل لك إن أردت المشاركة في إحدى حفلات القهوة أن تجد رفيقة تصحبك إلى هنا.

نظرت إليه بغيظ وعدت أدراجي إلى الورشة.

وضعت بعض اللمسات الأخيرة على طائرتي الشراعية وأنا أفكر في هذه المعضلة الحقيقية.

منذ نعومة أظفاري وأنا أحسد الطيور في الحقول؛

كيف لها أن ترتفع عالياً وتغيب عن الأنظار وقتما تشاء؟

أليست تلك أعظم هبة يمكن أن تُمنح لأي مخلوق؟

يا تُرى، كيف يكون شعورها وهي ترى الكون من ذلك العلو، تخترق الهواء بجناحيها؟

وضعت في قرارة نفسي أنني لا بدّ أن أشاركها التحليق يومًا ما.

لم أكن أعرف شيئًا عن الهندسة أو الحرف اليدوية آنذاك،

لكنني جعلت هذا الحلم هدفي، وعملت بجد حتى تعلمت الكثير عن الطيور وبنيتها،

وحاولت محاكاتها إلى أن وصلت إلى نموذجي الحالي، الذي سأجربه في المهرجان هذا العام،

حتى لو اضطررت إلى مرافقة واحدة من فتيات البلدة.

أسرعت نحو اللوح المخصص لتصميماتي ودوّنت قائمة بأسماء الفتيات المحتملات.

كانت القائمة قصيرة: ستّ فتيات فقط.

ألغيت اثنتين لضحالتهما، وثالثة لثقل دمها.

بقي ثلاث، فاستبعدت واحدة لتبرجها المبالغ فيه، وأخرى لصوتها المرتفع.

لم يتبقَّ سوى داليا، صاحبة استراحة الألعاب في الناحية الشرقية من البلدة.

لم أضيع وقتًا. ارتديت ما بدا لي مناسبًا وانطلقت نحو الاستراحة.

كانت طرقات البلدة لامعة برذاذ المطر الصباحي،

يُشعّ البازلت كأن الطريق صفحة من بحيرة رائقة.

وصلت إلى المبنى الأزرق ذي الباب المرتفع وصعدت الدرجات.

طرقت الباب بهدوء فانفتح تلقائيًا بصوت معدني يحاكي ألعاب الحاسب، يدعوني للدخول.

كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها استراحة الألعاب رغم دعوات أصدقائي المتكررة.

ناديت:

– داليا، أأنتِ هنا؟

جاءني صوتها من الطابق العلوي تدعوني للصعود.

كان المكان نصف مظلم، الجدران مطلية بلون أزرق داكن يشبه ظلمة الليل،

تتخللها خطوط فسفورية مضيئة تجعل الجو أشبه بلوحة من داخل لعبة إلكترونية.

صعدت فوجدتها تجلس مع عدد من صديقاتها على أريكة عريضة يشاهدن مسلسلًا.

ما إن رأتني حتى قامت نحوي وأخذت بيدي إلى غرفة جانبية خالية.

بعد الترحيب، استأذنت لتُعد قدحين من الشاي، فطلبتُ منها القهوة.

ضحكت ضحكة قصيرة وهي تستجيب لطلبي.

تأملت المكان: شاشة كبيرة، أريكة مريحة، طاولة صغيرة عليها مطفأة وجهاز ألعاب حديث.

عادت سريعًا بالقهوة وجلست مقابلي.

أسندت ظهري وقلت مباشرة:

– داليا، هل ترافقيني إلى القاطرة الطائرة في المهرجان؟

اتسعت عيناها دهشة وقالت:

– أنت آخر من توقعت أن يطلب مني هذا! تلقيتُ عدة عروض من قبل، لكنني رفضتها لأسبابي الخاصة.

بدا الضجر على وجهي، فأضافت بسرعة:

– لكني أوافق أن أرافقك. أظن أن في رأسك فكرة مجنونة تريد تنفيذها،

ولعلها لا تنتهي بكارثة في القاطرة الطائرة!

ابتسمتُ رغمًا عني، وأمسكت بأطراف أناملها شاكرًا بصدق.

لطالما رأيتُ داليا فتاة مميزة:

هي الوحيدة بين صديقاتها التي تملك مشروعًا خاصًا،

صحيح أنه لا يضيف للبلدة سوى مزيد من إضاعة الوقت للشباب،

لكنه مصدر دخلها واستقلالها. فضلاً عن تفوقها الدراسي أيام الثانوية.

ورغم جديتها، كانت تهتم بمظهرها،

وأكثر ما يميزها شعرها القصير، الذي كانت تقصّه رغم موضة إطالته بين فتيات البلدة.

اتفقنا على الموعد: مساء اليوم الثالث، بعد أن يخفّ الزحام حول القاطرة.

وفي اليوم الموعود، ساعدتني داليا في حمل أجزاء الطائرة،

وضعناها في حقيبتين كبيرتين واستخدمنا المصعد مرارًا لإخفائهما عن الأنظار.

أعددنا كل شيء في مؤخرة القاطرة، قرب النافذة الخلفية الكبيرة.

متظاهرًا بأنني سأقدّم عرضًا ترفيهيًا، أعددت طائرتي الشراعية،

أمسكت بالمقبضين، نظرت إلى الساحة البعيدة،

ثم... قفزت.

ظنّ الحاضرون أنني ألقيت بنفسي إلى الهلاك،

لكن حساباتي كانت دقيقة.

شعرت بالرياح ترفع الطائرة وجسدي معها،

وانطلقت أشق عباب السحاب.

غمرتني سعادة لا توصف.

هذا إذًا هو شعور الطير في الفضاء!

فجأة سمعت صوت إنذار متكرر يأتي من مكان ما.

لم أضع أي جهاز إنذار في الطائرة...

غادرتُ الحالة بين الحلم واليقظة، فتحت عينيّ قليلًا،

فرأيت الشمس تتسلل من النافذة،

وأدركت أنني استيقظت من النوم.