غاصت مؤخرتي في المقعد الوثير في
الصالة الفارهة للعملاء المميزين في البنك، وسرحت عيناي في الشاشات الإعلانية
المحيطة بالزوار والتي أعتقد أن الهدف من وجودها كان تعريف الزائرين بأدوار تلقي
الخدمة. ثم تحولت تلقائياً تلك المساحة المضيئة المخصصة للرقم إلى مربع صغير في
الزاوية، وباقي مساحة الشاشة المهولة إلى إعلان عن بطاقات سحب على المكشوف، عندما
يقوم البنك بإصدارها لك ستربح – وأنا أقتبس من إعلان حقيقي هنا – "شقة وسيارة
ورحلة لقضاء شهرٍ كاملٍ في جزر المالديف".
وعلى الرغم من أن كمية الابتذال في هذا
الإعلان فاقت الحدود، ولكنه – ويا للعجب – فقد صادقت إدارة هذا البنك على
استخدامه، وأنا في الحقيقة لا ألومهم.. فقد علمت من أحد أصدقائي العاملين في أحد
البنوك، وهم كثر، أن أرباح البنوك من بطاقات الائتمان تفوق أرباحها من أنشطة
أساسية يفترض العميل أنها مجال نشاط البنك الحقيقي. ناهيك عن أني عرفت بعدها تعاون
أصحاب تلك البنوك مع مؤسسات وهيئات مهمة على أن تقوم تلك الهيئات بقبول الدفع فقط
عن طريق تلك البطاقات، فتغلق الحلقة على العميل الذي لا يجد بُدّاً من أن يستخرج
تلك البطاقة الرائعة التي ستعود عليه بالنقاط والأرباح، والتي لا مأخذ عليها إلا
أنها لا توفر العروس في هذا العرض المذهل.
بدا لي أنه ربما يكلم خطيبة أو محبوبة
اضطرته الظروف إلى تركها هناك في بلاده الفقيرة، وها هو يريها عظمة المكان الذي
يذهب إليه للعمل وكم الفخامة التي تحيط به.. ربما يبعث في لبّها إحساساً بأنه ينجز
مهمته التي من أجلها تركها، واعداً إياها بالعودة يوماً ما.
وسألت نفسي وقتها: كيف لم ينصحني أحد؟
وكيف لم آخذ الأمر بعين الاعتبار وأرى حقيقة أني أقود نفسي بنفسي إلى منفى
اختياري؟ لكني لم أكن أعلم، ولا أظن أن أحداً ممن كانوا حولي كان يعلم أيضاً.. ربما
كنت في غفلة الشباب، وهذا من حقي، فقد كنت شاباً في وقتها على ما أظن.
حيّيتها وجلست طالباً منها بعض
المستندات، وقد لاحظت ابتسامتها الواسعة التي ربما تكون نتاج خبرة في عملها كموظفة
لخدمة العملاء في البنوك لفترة طويلة. وكاد الفضول أن يقتلني، فسألتها في معرض
حديثنا عن مؤهلها العلمي، فقالت إنها خريجة واحدة من الكليات المرموقة للأعمال
ولديها ماجستير في فرع من فروعها أيضاً.
كانت تتحدث بفخر جعلني أُشيد بتفوقها،
لكني كنت في داخلي أتحسر على كل تلك المهارة والتميز التي ضاعت في جلستها في
مكانها لتقوم باستقبال العملاء وطباعة بعض الأوراق وكشوف الحساب، واستخدام برنامج
على الحاسوب يمكن لطفل في الثانية عشرة أن يستخدمه بمنتهى الكفاءة.
وبما أني كنت قد ناقشت نفسي في هذا الموضوع مطولاً معتمداً على ما حولي من دراسات ومعلومات، وكانت لدي نظريتي عن نظام التعليم المُعَدّ خصيصاً لتفريخ عمال ينتظمون داخل المؤسسات، ويكون لهم أقل القليل من الفضول، الذي أقصى حدوده يكون ميعاد ترقيهم لمرتبة أعلى بعد مرور عدة سنوات، ويتركون أمور التفكير والتطوير لملاك الأعمال الذين قاموا – وبنجاح – بالإنفاق على عملية تطوير هذا النظام التعليمي الداجن.
خرجت من أفكاري وهي تسلمني الأوراق التي جئت من أجلها. شكرتها واستأذنت ومشيت ببطء نحو سيارتي، وقد عادت لي ذكرى سفري تلح على عقلي.. ولأنها من الماضي ولأنني أحياناً أعجز عن تذكر هذا الماضي ناهيك عن تغييره، غضضت الطرف عنها ودلفت إلى سيارتي.
ثم مدت يدي لمشغل الصوتيات في بطء، ضغطت أحد أزراره فانسابت الكلمات وترنمت معها:
"جيت على بالي كده من كام يوم.. قلت أما أسأل فينك..."