Monday, September 29, 2025

وجوه.. رواية في حلقات منفصلة (الحلقة الخامسة عشرة)

لم يتبقَّ غيري في المكان وكادت الشمس أن تغيب. قمتُ متثاقلاً مسلِّماً على جليسي الغائب واعداً إيّاه بالعودة قريباً. وفي الحقيقة دائماً ما أعود. وبالرغم من مشاغل الحياة الملهية إلا أني في النهاية أعود. أبقى في موضعي هذا جالساً أرمق الطيور التي تحط على أصص، أحرص على أن أصبَّ بها بعض الماء عند وصولي، وأراقب عن كثب هاته السيدات اللاتي أصبحت أُميِّزهن عن غيرهن لكثرة ترددهن على المكان.

ولكني نادراً ما أرى فتيات أو حديثات السن في المكان، وهذا لا يدهشني. فالمكان يبدو للراحلين أقرب، ومن في مقتبل عمره سيفكر أن يجعل هذا المكان مستقراً له ولو حتى لعدة ساعات كل حين. أُصلّي العصر في المسجد الشهير وأتوجّه إلى المقابر، أحاول جاهداً ألا أدوس على أيٍّ منها وأنا في طريقي إلى جلستي التي أعددتها في ظهر واحد من الشواهد لتبدو كحجارة تسد مدخل فلا يزيله العابرون والعاملون، وأضطر إلى بنائه مرة أخرى في زيارتي القادمة.

أجلس مستقراً سانداً ظهري على الشاهد من خلفي، وقد أدت كثرة ترددي على المكان إلى تمييزي لأقل التغيرات التي تطرأ عليه. لم أكن يوماً في شبابي من محبّي زيارة المقابر مثلي كمثل كل الشباب، ولكن في وقت ما أصبحت زيارتي الأسبوعية نوعاً من الطقوس التي أقوم بها تلقائياً بعد أن أنتهي من العمل يوم الخميس. وبينما أنا جالس أحملق في الفراغ، وهي مرحلة أبدأ بها ربما لساعة أو نحوها، قبل أن أبدأ في الحوار مع جليسي الراقد تحت التراب، لاحظت طرفاً من ورقة قد بدت من تحت الرمل في طرف القبر الرابض أمامي وكأنه هناك منذ الأزل.

مددت يدي والتقطتها فوجدتها لفافة رُبطت بخيط أحمر اللون، فعرفت مباشرة أنه سحر ما. لعنت صانعه وطالبه ومعينه في نفسي، ومستعيذًا بالخالق مددت يدي أفضّ اللفافة، وجدت بها صورة مطبوعة بطابعة رديئة لرجل يبدو في أوائل الخمسينات إذا كان هناك ما يميز الرجال في هذه المرحلة من العمر، كتب تحتها عدد من الطلاسم بخط اليد، وبعض شعرات قصيرة لابد أنها لنفس الرجل، وشفرة موسٍ صدئة. حمدت الله أنها لم تجرحني وأنا ألتقط اللفافة لأنها تبدو مرتعاً للتيتانوس الذي كان بعبعاً وقت الطفولة لانتشاره في تلك الفترة، وتحذيرات جليسي منه مرات عديدة ربما في كل مرة أنزل فيها للشارع أو أذهب إلى البحر.

هنا لاحظت شيئاً غريباً، لاحظت أن هناك أثار نبش في الرمال أماكن متفرقة في عدة مقابر تحيط بي وكأن أحدهم قام بدفن شيء ما حديثاً في المكان. تحركت من مكاني ببطء لم أفهم سببه، وطفقت أحرك الرمل بقدمي في تلك الأماكن فوجدت ما توقعته: لفائف أخرى يبدو عليها شكلياً أنها تنتمي لنفس صاحب اللفافة الأولى، وهو ما تأكدت منه حين فتحتها. ويبدو أنه دفنها على عجل لأنها كانت تحت طبقة رقيقة من الرمال. لممت اللفائف ووضعتها في طرف الحقيبة التي أبقي فيها ترموس الشاي الذي أحضره معي لجلستي الأسبوعية.

بعدما رجعت للمنزل، وفي واحدة من آنية الطعام الكبيرة، قمت بحرق اللفافات في طقس من الدعاء والاستعاذة، وتخلصت من البقايا في حاوية القمامة، وقد حرصت على وضعها في علبة حتى لا تجرح العاملين عليها. وفي اليوم التالي كنت قد نسيت تماماً الموضوع وعدت لوتيرة حياتي العادية.

في الأسبوع التالي كان يوم الخميس يوم عطلة، وهو ما يعني أني سأستمتع بثلاثة أيام متتالية منفرداً بنفسي متأملاً. قررت أن أغيّر ميعاد زيارتي الأسبوعية فتوجهت لصلاة الفجر في المسجد الشهير القريب، ومشيت برفق أستحث ضوء الفجر أن يظهر ليقضي على رهبة السكون والظلام والموت التي أصابتني رغمًا عني، وبينما أمني نفسي بساعات من الهدوء وأنا أتوجه نحو مجلسي المعتاد بدأت تلك الأصوات المبهمة التي أسمعها من وقت لأخر ترن في عقلي.. أحيانا يكون تفسيرها غاية في السهولة وأحيانا تكون كشفرات تحتاج الكثير من الوقت لفهمها وهو ما أملك منه الكثير حاليًا.. بعد برهة لاحظت في خيوط ضوء الفجر تلك الفتاة العشرينية على أكثر تقدير، وهي تتحرك بعصبية بين شواهد القبور، وتمسك بيدها حقيبة بدت خفيفة يتلاعب بها الهواء.

قدّرت أنها زائرة بعد عدة سنين وقد تشابهت عليها القبور وطمر مكان قبرها النسيان وخاصة انها اختارت وقت مبكر للغاية لزيارتها، ولكنها كانت تختفي من بين الشواهد وكأنها تلتقط شيئاً ما من الأرض ثم تعود للظهور. استولت على اهتمامي، وتعالت الأصوات في عقلي فتتبعتها رغماً عني، فوجدتها تحفر بملعقة في جوانب القبور وتدفن لفائفها. تذكرت فوراً لفافات الأسبوع الماضي، وتحركت في خفّة لأفاجئها متلبّسة بفعلها، وبينما هي تدفن واحدة من اللفائف صرخت من خلفها في حدة: "إيه الهباب اللي بتعمليه ده؟"

ويبدو أن قلب الفتاة كان مستعداً للتوقف، لأنها وبمجرد أن سمعت صرختي سقطت مغشياً عليها في قلب المقابر. التقطت الفتاة الصريعة وأسندتها إلى جدار واحد من شواهد القبور، وأنا أدلك جبينها في شدة، وبينما تحرك بؤبؤا عينيها نظرت لي في رعب. كلمتها بصوت هادئ حازم: "لا تخافي، أنا لست واحداً من سكان المكان، ومرة أخرى أسألك: إيه الهباب اللي بتعمليه ده؟"

ردّت في وهن شديد وقالت لي: "أرجوك لا تفضحني، أرجوك". أشفقْت عليها وقلت مباشرة: "متخافيش، وعلى فكرة الدجل والشعوذة اللي بتعمليهم دول مش بيجيبوا قدّام". وقمت مستعداً للرحيل فوجدت يدها تهاوت بجوارها وهي تتكلم بصوت أكثر وهناً: "لو سمحت مش قادرة أتحرك، ممكن توصلني لعربيتي؟"

يبدو أن هذه الفتاة قد أتلفت يومي الهادئ، لكني شعرت في داخلي بالتزام ما نحوها.. حاولت جاهداً أن أجعلها تتحرك دون أن أضطر إلى أن أحملها أو ألتصق بها، لكن جسدها كان مرتخياً تماماً ورجلاها كأنهما كتلتان من العجين. حمدت الله أنه لا أحد في المكان حالياً وإلا كان الموقف ليكون عسيراً على التفسير، لكائن من كان، رجل يكاد يحتضن امرأة يسيران بين شواهد القبور بينما خيوط ضوء الفجر تلوح في الأفق.

حملت الفتاة تقريباً من تحت كتفيها وسرنا ببطء حتى وصلنا للبوابة الحديدية الكبيرة، فأشارت نحو سيارة فارهة على جانب الطريق، توجهت نحوها وفتحت الباب. هالتني كمية اللفافات التي ترقد على المقعد الخلفي، وعانيت وأنا أحاول أن أجلسها على مقعد السائق، فقالت بوهن: "لا، لن أستطيع القيادة". لعنتها ولعنت تلك الأصوات التي تسري في عقلي بلا استئذان في سري وتوجهت بها نحو مقعد الراكب الأمامي وأجلستها وربطت حولها حزام الأمان وأنا أريد أن ألفّ به عنقها وليس وسطها، ثم قلت بنفاذ صبر: "ساكنة فين؟"

قالت اسم الحي الراقي، ولحسن الحظ أني أحمل حقيبة كتفي التي أحتفظ فيها بأوراقي ورخصة قيادتي. تحركت ببطء لأن السيارة كانت كبيرة، وأنا غير معتاد على السيارات بهذا الحجم، وبالرغم من اعتيادي القيادة في السابق إلا أني عندما أتركها لفترة أشعر كأني أتعلم القيادة من جديد.

كانت الشوارع خالية تقريباً في يوم عطلة في وقت مبكر للغاية. في الطريق مررت على واحد من مطاعم الوجبات السريعة والتي تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة يوميًا وطلبت شطيرة هالني حجمها مقارنة بحجم يد تلك الفتاة الجالسة بنصف وعي على الكرسي المجاور، أعطيتها الشطيرة آمراً: "كُلي دي دلوقتي". بدأت تأكل منصاعة لأوامري كأرنب يقرض في حبة خس هائلة.

انتظرت في الموقف الخاص بالمطعم حتى أنهت جزءاً لا بأس به من الشطيرة، ثم عرّجت على مقهى أعرفه وطلبت منه قدحاً من القهوة لي وشاي بالحليب لها. أعطيتها الكوب الورقي الكبير بنظرة آمرة فتلقفته وبدأت ترشف السائل الساخن. تأملت ملامحها لأول مرة منذ التقيتها، كانت بيضاء البشرة واسعة العيون، اكتست حدقاتها باللون البني المائل للخضرة، فلمعت تحت أشعة الشمس كحجر من الزمرد المشوب بألوان بنية، وبأنف صغير وشفتان مكتنزتان وشعر منسدل على جبهتها ووجنتيها اكتملت لوحة ملامحها الجميلة الرقيقة، لوحة لم يعيبها إلا تلك الهالات السوداء الكبيرة تحت عينيها، والتي بدت متباينة تماماً مع لون بشرتها الوردي، وقد غابت الدماء عن وجنتيها تماماً.

كان هذا الجمال محمولاً على جسد صغير فائر واهن، يبدو أنها تعاني من سوء تغذية هذه الفتاة. بعدما انتهت من مشروبها واحتسيت قهوتي، عدت للمقهى طالباً كوباً آخر من القهوة. أخذته في يدي وعدت للسيارة جالساً بجوارها وأنا أقول لها: "فين بالظبط؟"

ردت بصوت ما زال مرتجفاً: "مش عارفة دفنتهم فين، أنا مش عارفة، سامحني يارب". نظرت لها في غباء ثم قلت بنفاذ صبر: "قصدي ساكنة فين.. إنتي ساكنة فين بالظبط في حي المراكب؟" استعادت بعض من رباطة جأشها وقالت ببطء: "عند الواجهة البحرية الشرقية".

وكما توقعت من مستوى سيارتها وملابسها، فهي منطقة فارهة تناسب الأثرياء من سكان المدينة الساحلية. قدت ببطء حتى وصلت للمكان الذي حددته، وبينما أقف في الموقف الخاص بها عدت ألعنها في سري على المشوار الرهيب الذي سأقطعه من هذا الحي الراقي لأقرب مكان به مواصلات تأخذني لبيتي. نزلت من مكاني على مقعد السائق وتوجهت نحوها وأمسكت بيديها وأنزلتها من السيارة. سألتها بحدة لم أجد لها مبرراً: "حد حينزل ياخدك وإلا حتعرفي تطلعي لوحدك؟"

نظرت نحوي بعيون ممتنة وقالت وهي تخرج هاتفها من حقيبتها: " لا حطلع لوحدي.. ممكن رقم تليفونك لو سمحت؟ أنا مش عارفة أشكرك إزاي". قلت لها: "لا داعي، وأنا في الحقيقة لا أتمنى أن أقابلك مرة أخرى". عبست لعبارتي التي خلت من أي قاعدة من قواعد اللياقة، وأي لياقة ستبقى في جعبتي بعد هذا الافتتاح الدرامي ليومي وتدمير كل خططي الوردية، وقفت أمامها دقيقة ولما رأيتها قد استعادت عافيتها وتركيزها، تحركت في خفة نحو بوابة الموقف الفاره هو الآخر، وأنا أمني نفسي بمشوار طويل خفّف من وطأته الأشجار التي تحف الطريق على الجانبين ونظافة الشارع وألوان المباني الجميلة.

ولحسن الحظ وجدت سيارة أجرة تقاضت مني مبلغًا محترمًا لتقلني بسرعة نحو بيتي. لم أعد للمقابر وقد أجلت جلستي إلى وقت العصر، ريثما أكون قد نمت قليلاً وأستعيد شيئاً من نقاء ذهني.

في الأصيل توجهت نحو المقابر وتعمدت أن أسير في خطوط متقاطعة لأغطي أكبر مساحة ممكنة من المكان وأنا أبحث بعيني عن آثار الحفر التي تركتها الفتاة. وفقت لعدد كبير من لفائفها، والتي كنت أقتنصها محاولاً قدر الإمكان ألا ألفت أنظار الزائرين أو العاملين، وكررت خطة الأسبوع الماضي وتخلصت من اللفافات بالطريقة ذاتها.

مرت عدة أسابيع، وفي واحدة من اجتماعاتي مع جليسي الراقد يستمع لي تحت التراب، اقتربت مني فتاة تبينت ملامحها على الفور وأنا أقول لها مبتسماً رغماً عني: "إنتي تاني". نظرت نحوي بأدب وقالت: "أنا جيت هنا مرات كتير عشان ألاقي حضرتك". أشفقت عليها فوراً من رحلة البحث عني تلك، قالت: "كان لازم أشكرك"، أفلتت كلماتي رغماً عني: "يبدو أنك عاطفية جداً يا.." "نشوى" قالت مكمّلة جملتي.

قلت لها متلطفاً، "اسمي حامد". قالت ببساطة: "ممكن أقعد جنبك؟" قلت مازحاً: "المكان مترب زي ما انتي شايفة وأكيد هدومك حتتوسخ". كانت قد جلست في المكان الضيق بجواري ملاصقة لي تماماً. نظرت نحوها وأنا أقول بلهجة عملية: "إنتي مش خايفة مني؟" قالت بسرعة: "بالعكس أنا مطمنة ليك جداً.. أنت مش متخيل من وقت ما قابلتك أنا حياتي اتغيرت إزاي.. تسمحلي أرد لك الجميل بعزومة في مطعم بناسبك.. ما رأيك في مطعم البوابة أو الياسمين؟"

كانت تتكلم بسرعة شديدة ولم تمنحني وقتاً للتفكير، فرددت بعفوية معلناً موافقتي على الدعوة: "الركن.. مطعم الركن". ابتسمت وهي تقول: "وليكن، هل يناسبك الجمعة في الخامسة؟" قلت: "وهو كذلك". وصمتت. جلست بجواري نحو ساعة حتى مالت الشمس للمغيب، فقمت نافضاً التراب الذي علق بملابسي وكذلك فعلت هي، ثم فاجأتني وهي تتأبط ذراعي نحو البوابة وتشير نحو سيارتها: "حوصلك وأنا اللي حسوق المرة دي".

لم أعلق سوى بأن البيت قريب ولا داعي، وكأني كنت متوقعاً إصرارها. فسرت معها نحو سيارتها، ولحسن الحظ لم تكن تلك اللفائف هناك. أقلتني لمنزلي وودعتني ورحلت.

في اليوم التالي، وبعد طقوس صلاة الجمعة المعتادة، ارتديت ما بدا لي مناسباً وتوجهت نحو المطعم الشهير، وجدتها تنتظر برغم من وصولي مبكراً. توجهت نحوها مبتسماً، حييتها وجلسنا. قالت لي بعد برهة: "غريبة إنك ما سألتنيش عن موضوع الأعمال".

ضحكت رغمًا عني وأنا أقول: "قصدك اللفافات اللي طبعتي فيها صورة الراجل اللي بتحبيه وعاوزاه ينفصل عن مراته عشان يرتبط بيكي". جحظت عيناها ونظرت لي كالمصعوقة، وقد بدت على وجهها نظرة رعب ميزتها جيداً. قلت لها معتذراً: "معلش أنا صريح أحياناً ولا أفكر في كلامي قبل ما أقوله".

قالت مستجمعة قوتها: "ك ك كيف.. كيف عرفت؟" قلت لها بلهجة عملية مباشرة: "الموضوع لا يحتاج قدراً كبيراً من الذكاء.. الصورة واضح أنها لرجل خمسيني طبعت في المنزل بطابعة عادية، وضعت في اللفافة مع عدة شعرات منه، لابد أن علاقتكما قريبة لتمكنك من الحصول عليها، والموسى أعتقد أنه يوضع بداخل تلك الأعمال للتفريق وهو أصعب جزء في الموضوع ومش عارف الحقيقة جبتيه منين غير أنك تسيبيه يصدي.. واضح أنك جبتي الوصفة من اليوتيوب لأن الطلاسم كانت طفولية تماماً".

بدأ الارتياح يظهر على وجهها من التفسير المنطقي لكلامي، ولكني في الحقيقة أخفيت عنها جزءاً لم أكن أريدها أن تعرفه، أني وحينما رأيتها بين جنبات المقابر داهمتني تلك الرؤيا لها ورجلها الخمسيني، على وجهه إمارات الخبث، يكلمها ويداعبها كدمية ويعدها بالزواج بعد أن يتخلص من زوجته الشمطاء التي لا يحبها بالتأكيد، وسمعت من يهمس في أذني: "أنقذها". كان الصوت واضحاً كمن يهمس في أذني، وهو يكررها مرة بعد مرة وأنا أتتبعها بين جنبات المكان.

قاطعت أفكاري حين قالت: "أنا مش عارفة أنا عملت كده ليه". تقمصت دور الطبيب النفسي الذي أحب أن ألعبه كلما سنحت لي الفرصة: "أكيد فقدانك لوالدك في سن مبكرة وعدم وجود رجل حقيقي جانبك سبب مباشر للتعلق بالإنسان ده".

قالت بسرعة: "لا لا، أنت فظيع، أنت عرفت إزاي إن والدي متوفي؟ انت عندك قدرة على التنبؤ والا إيه؟" قلت ببساطة: "لا ده مش تنبؤ ولا حاجة، ده عرض واضح من أعراض عقدة ألكترا اللي وصفتها كتب النفس الفرويدية وخصصت لها مكان كبير في كتبها، واللي أنا شايف أنها نظرية فاشلة الحقيقة، لكن هو أول حد قدر يوصفها بشكل يبدو علمي ومفهوم للناس، عشان كده اتنسبت له للأسف. ولكن رأيي أنا فيها أن البنات بتختلف في طباعها وميولها وشخصيتها زيها زي أي أنسان على وجه الأرض، البنت كمخلوق مميز  جواها طاقة هائلة من الأنوثة والجمال، ووجود إنسان بتطمئن له زي الأب بيخلي الزهرة دي تشرق وتتفتح لأقصى درجة بشكل طبيعي وبحدود واضحة، وغياب دور الأب ده طبيعي يؤدي لكبت المشاعر دي لحد ما يجي إنسان يبث شعور الأمان ده جواها فتتحرك مشاعر الأنوثة والارتباط بقوة، وأحياناً للأسف بيكون الإنسان غير مناسب".

أسبلت عينيها وهي تؤكد على كلامي: " أنت مش متخيل كلامك ده صحيح أد إيه، فعلاً هو إنسان غير مناسب،أنا مكنتش شايفه ده وكنت حاسه أني من غيره حموت، وأنا مش عارفة بقولك كده ليه، لكن من يوم ما أنت ساعدتني في الموقف الصعب ده، لقيت حاجة غريبة بتنفرني من ناحيته، لدرجة أني دايماً كنت أنا اللي بكلمه وألح عليه أني أشوفه، لكني من وقتها مكلمتهوش ولا مرة، وهو كمان مكلمنيش".

بدت على وجهي نظرة ارتياح وأنا أقول لها: "إنتي ربنا انقذك لسبب ما.. أكيد إنتي إنسانة طيبة يا نشوى". نظرت في وجهّي بامتنان وهي تقول في مرح: "مش حناكل ولا إيه؟"

بعدها تبادلنا الحديث في مواضيع عديدة وقد بدا لي جداً احتياج الفتاة لرجل قوي يرتب لها أوراق حياتها، وبينما توصلني للمنزل، سجلت رقم هاتفي وقالت: "تسمحلي أكلمك لما أحتاجك". قلت لها مبادراً: "بالتأكيد في أي وقت وفي أي ظروف، ولحد ما تزهقي إنتي".

ضحكت ضحكة قصيرة مرحة وهي تقول: "من الناحية دي متقلقش، مش حزهق أبدًا". كنت أعرف أني يجب أن أتعامل معها بحرص، وإلا أستغل هشاشتها العاطفية لأنها ربما ترتبط بشخصي أنا ويكون الأمر مجرد استبدال صنم بآخر، ولكن في قرارة نفسي كنت أتخيل أن تحبني إنسانة يصل بها الحال إلى عمل سحر لي بل وتعرض نفسها للخطر بهذا الشكل فقط لتضمن وجودي بجوارها، وبدت الفكرة أقرب إلى الأحلام منها إلى الواقع.

أبدلت ملابسي وارتديت منامتي ورقدت على سرير متأملاً في السقف. سمعت الصوت ذاته يهمس في أذني: "شكراً"، فابتسمت في داخلي واستغرقت في النوم.

No comments: