Saturday, October 4, 2025

حلم ورؤيا

اخترت للمذياع الذي اشتريته حديثًا مكانًا مناسبًا على الطاولة الضيقة بما عليها. قلما أضيف إلى غرفتي أي أجهزة. في العادة يكفيني جهاز الحاسب عن التلفاز والراديو ومشغل الصوتيات وكل ذلك. وعلى الرغم مني، وعندما دخلت إلى ذلك المتجر القديم، لم أملك إلا أن أشتري هذا الجهاز العتيق. شيئًا ما اقتادني لأن أعرج بعد عملي على الشارع التجاري، وبالرغم من أنه ليس الطريق المعتاد الذي أنهي به يومي، ولكني ولسبب ما ألح على عقلي قررت أن أقضي بعض الوقت هناك قبل أن أعود للبيت.

ولاحظت هذا المتجر ذو الواجهة المتربة، ويبدو أنه كان مقفلًا منذ عدة عشرات من السنين. وكان واضحًا من حركة الناس وكلامهم أن المكان كان ملكًا لشخص ما وظل مغلقًا لفترة طويلة، ويبدو أن مالكه الجديد قرر التخلص من محتوياته بأي مبلغ يستطيع المارة تحمله. دخلت بدافع الفضول والاستمتاع بالأشكال القديمة للأجهزة. لكن هذا المذياع لفت انتباهي بشدة، وتوجهت للمسؤول مباشرة أسأله: "للبيع ده؟" فنظر لي مبتسمًا: "كله للبيع". قلت مستطردًا: "بكام؟" قال: "هات اللي تجيبه يا أستاذ، كلها بضاعة قديمة، واللي مش حيشتريه الناس بكرة حيتباع لبتوع الخردة".

أشفقت على المذياع العتيق والذي علاه الغبار بشكل مزر. أخرجت ورقتين ونقدتهما للمسؤول، فنظر لي راضيًا وقال: "حلال عليك". بحثت حولي عن حقيبة أحمل فيها المذياع الكبير، لكنه كان خفيفًا لدرجة لا تصدق. لحسن الحظ وجدت ما بدا حقيبة كبيرة من القش، فنظرت للرجل مستأذنًا فأومأ برأسه. وضعت فيها الجهاز وخرجت نحو الشارع سعيدًا بغنيمتي.

حالما وصلت للبيت طفقت أقوم باستعادة رونق الجهاز، ولشد ما هالتني الحالة الممتازة التي كان عليها. وبعد مجهود من شفط الأتربة وإزالة العوالق وتلميع عروق القشرة الخشبية البنية، بدأت ملامح هذه التحفة الفنية تبدو واضحة للعيان. بقي أن أوصله بالكهرباء لأرى هل مازالت تلك "الصمامات المفرغة" العتيقة تعمل أم تقاعدت كحقبة الجهاز البائدة.

تأكدت من فئة مدخل الطاقة، لأني تذكرت أننا في أوائل الثمانينات كان لدينا تلفاز هائل الحجم تعرض شاشته الصور باللونين الأبيض والأسود، وكان يحتاج إلى جهاز ثقيل الوزن للغاية كنا نسميه "الترانس". وهو محول للطاقة من مائة وعشرة فولتات إلى مئتين وعشرين. ويبدو أن تلك الأجهزة كانت قادمة من الولايات المتحدة أو كندا، والتي حتى اليوم تعتمد نظام المائة وعشرة فولتات في طاقتها الكهربية. وكانت المفاجأة السعيدة: انطلق صوت التشويش واضحًا من سماعة الجهاز.

حملته نحو مستقره على الطاولة ثم وضعته في محله. بعدها قمت بتعديل الهوائي والعبث بمولف المحطات حتى استطعت التقاط واحدة من الإذاعات القليلة التي مازالت تذيع على نظام تعديل السعة "AM"، والتي كادت أن تنقرض تقريبًا بعد سيطرة نظام تعديل التردد المعروف باسم "FM". والتقط الجهاز الصوت الشجي للسيدة أم كلثوم وهي تقول في لحظة خالدة: "سنين ومرت زي الثواني في حبك انت".

تركت المذياع دائرًا بعد أن خفضت الصوت لأقل درجة ممكنة. أنهيت واجباتي المنزلية وجلست أكتب بضعة سطور خطرت ببالي قبل النوم، وتركت الأوراق والقلم الرصاص المفضل لي عن أي أقلام أخرى، وتوجهت للسرير المجاور للطاولة لأخلد للنوم.

فزعت على صوت يتكلم في الغرفة. كنت مشوشًا في البداية من مصدر الصوت، ولكن الصوت المتكلم كان قادما من زاوية المذياع الجديد. هدأ روعي كثيرًا عندما عرفت أن مصدر الصوت. وقررت وأنا نصف نائم أن أطفئه. وعندما اقتربت من الطاولة بدأت أسمع صوت المتكلمة الهادئ الدافئ بوضوح. كان يبدو وكأنها تقرأ عبارات ما وتكررها بصوتها المميز في أذني.

فركت عيني في استغراب. أكاد أقسم أني أعرف هذا الصوت. ونظرت حولي أحاول التأكد أني لست أحلم. وبرغم من عدم وجود أضواء بالغرفة إلا أني أمسكت بذراعي ضاغطًا عليها، فهي تؤلمني عند مفصل الكتف منذ مدة، وكان صدح الألم دليلًا على أني مستيقظ بشكل كلي. جلست على الكرسي أمام الطاولة مشدوهًا. لم أسمع هذا الصوت المحبب منذ مدة طويلة.

لابد أن مصدر الصوت واحد من أجهزة الإرسال المنزلي التي انتشرت في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، واستخدمها الناس لبث الإذاعات من بيوتهم مباشرة، وكان هناك من ينسونها مفتوحة فتذيع أسرار بيوتهم على الباحثين عن الموجات كحالتي. واستمر الوضع كذلك لفترة قبل أن يُفطن إليها فتمنع تمامًا.

أضأت مصباح الطاولة الصغير ذو الضوء الأصفر الدافئ و اتسعت عينيّ في دهشة عندما ارتفع صوت الراديو من تلقاء نفسه وكأنه أدرك أني أصبحت جالسًا أمامه أستمع له، وانتشر الصوت الهاديء في المكان: "أكلم مين وانت عارف إنك كل حاجة". كتبت العبارة على الورق أمامي وبدأت الأفكار تنسال في عقلي. هل هذا سؤال؟ لا، ليس سؤالًا بل هو تقرير حالة. فالصوت يخبرني أني.. أني كل شيء.. وبرغم ان العبارة ليست واضحة.. لكني فهمت المقصود والمغزي من وراء البداية المشوشة.

نظرت بطرف عيني للمرأة بجانبي لأتأكد من أني وحدي بالغرفة، وأن الصوت مازال يخرج من المذياع وليس من عقلي. "أوقات بقول لنفسي انتي اتحبيتي بجد، هو عرف يحبك بكل الطرق، إحساسه وصلك". أحسست أن العبارة مقطوعة وكنت لأستحث قائلتها على أن تتوقف وتعيدها مرة أخرى بعد أن تكملها، ولكنها واصلت تكرار عباراتها بإصرار جعلني أشك أن هذا حلم. ولكن ملمس الورق والقلم بين يدي يصران على العكس.

"فيك كل حلوة يتمناها أي حد من بعيد. الحنية والود والحزم للمصلحة، والعطاء من غير حدود، والحضن الدافي والأمان والسكون". بدا لي هنا أنها مازالت تتكلم عني. أنا.. أنا أحمل تلك الصفات. شعرت بالإطراء رغمًا عني، وأحببت أن يمتدحني الصوت المحبب برغم مقتي للمدح في غير موضعه، ولكن بدا لي وقتها أن هذا موضعه المناسب تمامًا.

"ما بالك باللي عاشها وجربها وداقها وعرف طعمها، عرف الفرق بين الموت والحياة، بين النور والظلمة، بين الأسود والألوان". وعندما سمعت هذه العبارة بدا لي أنها تسهب. لكنى وعندما كررت العبارة عدة مرات.. عرفت انها لم تستطرد عندما ذكرت الاضداد متتالية.. فالموت والحياة هما حالتان فاصلتان بين لقائنا وغيابي عن حياتها..  والنور والظلمة.. هو الوصف الصحيح لظلمة أوقات الأنتظار وسطوع شعاع ضوء الوصال.. والأسود والالوان.. يصفان وببراعة تباين الاوقات بين البعد وتخييم الأسود عليه و جمال الأطياف من الالوان التي تحف الوجود في وجودنا سويًا.. هل أتى صوتها من عالم الموجات، هناك ما وراء الصحاري والمدن والبحار، ليخبرني أني أصنع فرقًا؟

"أنت في كل مكان، في كل موقف. والغالب في الوحدة اللي هي بتبقى في وسط كل الناس. وانت الونس وأنا لوحدي". كدت أرد عليها وأقول: أني أدركتِ تلك الحقيقة مبكرا للغاية. وأن المشاعر الحقيقية التي يحملها الإنسان تغنيه عن كل البشر  وتذكرت حين أخبرتها للمرة الأولى أنك ستدركين معني كلمة "وحشتني" قريبا .

"حاجة غريبة.. المشترك في قربنا وبعدنا نفس الحيرة. هو أنا فعلًا سكنت في قلبك ولا كان عطف منك؟ حيرة بتهدني، بتوصلني لحالة من الجنون". كدت أمد يدي وأغلق المذياع عندما سمعت هذه العبارة وهي تتكرر عدة مرات. ها هي تعود لكلماتها المؤلمة، ورغبتها الملحة في أن تأطرني داخل إطار ما يلائم انفعالاتها وأفكارها. لكني صمت لأسمح لنفسي بأن أسمع العبارة وأدونها كما هي:

"لا أنا مكنتش عروسة ماريونيت وانت بتنبسط بيها. انت كنت بتحاول تعرفني وتعرف حياتي وتختبرني بالطريقة، وتحاول تلاقي مسمى وسبب للحالة اللي وصلنا لها وتديها زي وصف عام".

عرفت أنها ستذكر هذا التشبيه. وتعمدت حين رسمتها في شكل تلك العروسة لأن أجعلها ترى ذلك.. حاولت وقتها أن أجعل حملها "للمنصة" أو "الصليبة" التي تنسدل منها الخيوط التي تتحكم بالعروسة في يديها هي، لتعلم أنها هي من تملك الخيوط ولا أحد آخر. ويبدو أنها أدركت تلك الحقيقة، فكلماتها تحمل من العقلانية والاتزان ما هو غريب عليها.

"انت عارف إن اللون اللي بقى بيخليني أحس بالبهجة بتطل عليه الأصفر. هو غالبًا مش اللون على قد ما هو حاجة منك بتفرحني".

اتسعت ابتسامتي وأنا أسمع هذه العبارة التي بدت أنها تنهي بها كلماتها، لأن صوتها بدأ يخفت. ثم بدأ المذياع يذيع أغنية قديمة لإيهاب توفيق. استمتعت للأغنية، وكدت أمد يدي لأغلق المذياع، لكني ترددت خوفًا من أن يقول الصوت شيئًا ولا أكون موجودًا لأسمعه.

وقررت أن أتركه يبث أغانيه القديمة. توجهت نحو سريري وأنا أشعر بالخدر يسري في عقلي، واستلقيت، واستغرقت في النوم.

No comments: