Sunday, November 30, 2025

ذكريات إجبارية

غاصت مؤخرتي في المقعد الوثير في الصالة الفارهة للعملاء المميزين في البنك، وسرحت عيناي في الشاشات الإعلانية المحيطة بالزوار والتي أعتقد أن الهدف من وجودها كان تعريف الزائرين بأدوار تلقي الخدمة. ثم تحولت تلقائياً تلك المساحة المضيئة المخصصة للرقم إلى مربع صغير في الزاوية، وباقي مساحة الشاشة المهولة إلى إعلان عن بطاقات سحب على المكشوف، عندما يقوم البنك بإصدارها لك ستربح – وأنا أقتبس من إعلان حقيقي هنا – "شقة وسيارة ورحلة لقضاء شهرٍ كاملٍ في جزر المالديف".

وعلى الرغم من أن كمية الابتذال في هذا الإعلان فاقت الحدود، ولكنه – ويا للعجب – فقد صادقت إدارة هذا البنك على استخدامه، وأنا في الحقيقة لا ألومهم.. فقد علمت من أحد أصدقائي العاملين في أحد البنوك، وهم كثر، أن أرباح البنوك من بطاقات الائتمان تفوق أرباحها من أنشطة أساسية يفترض العميل أنها مجال نشاط البنك الحقيقي. ناهيك عن أني عرفت بعدها تعاون أصحاب تلك البنوك مع مؤسسات وهيئات مهمة على أن تقوم تلك الهيئات بقبول الدفع فقط عن طريق تلك البطاقات، فتغلق الحلقة على العميل الذي لا يجد بُدّاً من أن يستخرج تلك البطاقة الرائعة التي ستعود عليه بالنقاط والأرباح، والتي لا مأخذ عليها إلا أنها لا توفر العروس في هذا العرض المذهل.

 التفتُّ للناحية الأخرى فوجدتُ الموظفة ما زالت منشغلة مع عميلها الحالي. كنت أستطيع في الحقيقة أن أتوجه نحوها مباشرة، لكني فضلت أن أستريح قليلاً من المشي من المواقف القابعة في الجهة المقابلة لمبنى البنك والتي تتعدد أدوارها، وتصبح مسألة العثور على سيارتك صعبة إذا لم تتذكر في أي طابق وضعتها قبل نزولك إلى الطابق الأرضي، وهو ما حدث لي شخصياً غير مرة. ومن حسن الحظ كانت السيارة ممن تُصدر الأصوات عند ضغط زر ما في مفتاحها عن بُعد، مما سهّل المهمة إلى حد كبير.

 جلس بجواري رجل في منتصف العمر بقسمات لطيفة، بدا من لهجته أنه إما من جنوب الهند أو سريلانكا، وقد كان يبتسم ابتسامة عريضة وهو يهاتف امرأة ملىء وجهها شاشة الهاتف الكبيرة. ولم أتعمد حقيقة استراق النظر إلى هاتفه، ولكن اتساع ابتسامته أغراني بأن ألتفت إليه لفترة وجيزة.

بدا لي أنه ربما يكلم خطيبة أو محبوبة اضطرته الظروف إلى تركها هناك في بلاده الفقيرة، وها هو يريها عظمة المكان الذي يذهب إليه للعمل وكم الفخامة التي تحيط به.. ربما يبعث في لبّها إحساساً بأنه ينجز مهمته التي من أجلها تركها، واعداً إياها بالعودة يوماً ما.

 أخذتني الذاكرة إلى قصتي التي مرّت عليها عشرات السنين.. وكيف أني كنت – ويا لسذاجتي – ظننت أني ربما أقضي سنتين ليس إلا في جمع بعض المال لأليق بأسرة آنستي التي قررتُ الزواج منها.. وكم الطفولة في هذه القناعة، لا يكاد يُصدَّق في الحقيقة.

وسألت نفسي وقتها: كيف لم ينصحني أحد؟ وكيف لم آخذ الأمر بعين الاعتبار وأرى حقيقة أني أقود نفسي بنفسي إلى منفى اختياري؟ لكني لم أكن أعلم، ولا أظن أن أحداً ممن كانوا حولي كان يعلم أيضاً.. ربما كنت في غفلة الشباب، وهذا من حقي، فقد كنت شاباً في وقتها على ما أظن.

 دقّت رنّة ما أخرجتني من أفكاري لأتطلع إلى الشاشة الصغيرة أمام مكتب واحدة من الموظفات. لفت نظري اسمها غير المألوف وقدّرت منه أنها ربما باكستانية من مواليد البلد الخليجي الذي نعيش فيه، وذلك لأنها كانت تتحدث العربية جيداً بلكنة أجنبية أميّزها، وكان نصف شعرها الكستنائي الناعم المائل إلى الأصفر ظاهرًا من طرحتها الرقيقة الشفافة التي تغطي الجزء الثاني على استحياء بطريقة تميز النساء من هذه المنطقة من العالم.

حيّيتها وجلست طالباً منها بعض المستندات، وقد لاحظت ابتسامتها الواسعة التي ربما تكون نتاج خبرة في عملها كموظفة لخدمة العملاء في البنوك لفترة طويلة. وكاد الفضول أن يقتلني، فسألتها في معرض حديثنا عن مؤهلها العلمي، فقالت إنها خريجة واحدة من الكليات المرموقة للأعمال ولديها ماجستير في فرع من فروعها أيضاً.

كانت تتحدث بفخر جعلني أُشيد بتفوقها، لكني كنت في داخلي أتحسر على كل تلك المهارة والتميز التي ضاعت في جلستها في مكانها لتقوم باستقبال العملاء وطباعة بعض الأوراق وكشوف الحساب، واستخدام برنامج على الحاسوب يمكن لطفل في الثانية عشرة أن يستخدمه بمنتهى الكفاءة.

وبما أني كنت قد ناقشت نفسي في هذا الموضوع مطولاً معتمداً على ما حولي من دراسات ومعلومات، وكانت لدي نظريتي عن نظام التعليم المُعَدّ خصيصاً لتفريخ عمال ينتظمون داخل المؤسسات، ويكون لهم أقل القليل من الفضول، الذي أقصى حدوده يكون ميعاد ترقيهم لمرتبة أعلى بعد مرور عدة سنوات، ويتركون أمور التفكير والتطوير لملاك الأعمال الذين قاموا – وبنجاح – بالإنفاق على عملية تطوير هذا النظام التعليمي الداجن.

خرجت من أفكاري وهي تسلمني الأوراق التي جئت من أجلها. شكرتها واستأذنت ومشيت ببطء نحو سيارتي، وقد عادت لي ذكرى سفري تلح على عقلي.. ولأنها من الماضي ولأنني أحياناً أعجز عن تذكر هذا الماضي ناهيك عن تغييره، غضضت الطرف عنها ودلفت إلى سيارتي.

ثم مدت يدي لمشغل الصوتيات في بطء، ضغطت أحد أزراره فانسابت الكلمات وترنمت معها: 

"جيت على بالي كده من كام يوم.. قلت أما أسأل فينك..." 

Sunday, November 9, 2025

حلم على الورق

 استيقظتُ على أصوات الطبول وأنغام الآلات الموسيقية المختلفة.

يبدو أنه تدريب آخر للفرق المشاركة في المهرجان السنوي.

لم أفهم يومًا سبب تمسّك بلدتنا الصغيرة بإقامة هذا المهرجان الضخم كل عام. وكالعادة، ستتوقف كل مظاهر العمل لخمسة أيام متصلة. لم أكن من مشجعي المهرجان يومًا، ولطالما كان الزحام يرهقني ذهنيًا وبدنيًا. كنت أفضل أن أبقى في سريري أو في ورشتي المتواضعة على أن أختلط بتلك الحشود، أستنشق مزيج العرق والعطور وأتحمل ضوضاء البشر.

لكنني هذا العام أعددت خطتي جيدًا.

سأستغل المهرجان لأجرب مشروعي الذي أعمل عليه منذ شهور.

بعد الانتهاء من التهاني والمجاملات، سأصعد إلى "قاطرة القهوة" الرابضة فوق ساحة البلدة منذ أسبوع استعدادًا للمهرجان، وأطلق طائرتي الشراعية لأحلق في الهواء.

بلدتنا الصغيرة تقع في قلب الوادي، وأقرب التلال تبعد عنها عشرات الأميال. أفهم وجهة نظرهم في عدم إقامة مبانٍ مرتفعة؛ فالمكان فسيح ولا داعي لرفع الأعمدة. من أراد بيتًا، شيد آخر إلى جواره، أسرع وأوفر.

خرجتُ فوجدت الجميع مجتمعين في الساحة الكبيرة.

لطالما كانت هذه الساحة ملتقى للجميع؛ رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا. نجتمع فيها للسمر أو للتسوق في أول ثلاثاء من كل شهر، حين يعرض الأهالي مشغولاتهم اليدوية وبعض مقتنياتهم. أحيانًا يزورنا أناس من البلدات المجاورة لحضور هذا السوق المميز.

كل طرق البلدة مرصوفة بالبازلت الأسود. لا أدري متى تم هذا الرصف، لكنه بالتأكيد قديم جدًا. سألتُ جدّتي ذات مرة، فقالت إنها ولدت لتجدها هكذا. ربما كانت بلدتنا إحدى محطات طريق الحرير في الأزمنة الغابرة، وها نحن نسكنها حتى الآن.

ناهيك عن أعمدة الإنارة العتيقة الأنيقة التي تزين شوارعنا الواسعة والضيقة.

وجدت جمعًا من عائلتي وأصدقائي في الساحة، سلّمت عليهم فحيّوني بابتسامات عريضة، رددت بمثلها. سرعان ما بادرني أحدهم بالسؤال:

– هل قررتَ من ستكون رفيقتك في المهرجان؟

نظرت إليهم في غباء، ثم تذكرت فجأة: دخول قاطرة القهوة الطائرة مقصور على الأزواج فقط! كيف نسيت هذا الأمر المهم وأنا غارق في إعداد طائرتي الشراعية؟

انطلقتُ نحو الرصيف وصعدت عبر المصعد الدائري الواسع حتى وصلت إلى القاطرة.

ابتسم لي القائم عليها ابتسامة صفراء وهو يقول بلهجة سمجة كأنه يطردني:

– لن يبدأ العمل في القاطرة إلا بعد الغد، مع انطلاق المهرجان.

أومأتُ له بنفس الابتسامة وأنا أقول:

– أعرف، أعرف... لكنني أردت أن أسأل فقط.

كان منهمكًا في ماكينة تبتلع العملات المعدنية وترتبها، يتجاهلني تمامًا كأنني هواء.

لكني سألته بإصرار:

– هل شرط "الأزواج" هذا إجباري لدخول القاطرة أثناء المهرجان؟

فأجاب دون أن يلتفت:

– نعم، إجباري. والأفضل لك إن أردت المشاركة في إحدى حفلات القهوة أن تجد رفيقة تصحبك إلى هنا.

نظرت إليه بغيظ وعدت أدراجي إلى الورشة.

وضعت بعض اللمسات الأخيرة على طائرتي الشراعية وأنا أفكر في هذه المعضلة الحقيقية.

منذ نعومة أظفاري وأنا أحسد الطيور في الحقول؛

كيف لها أن ترتفع عالياً وتغيب عن الأنظار وقتما تشاء؟

أليست تلك أعظم هبة يمكن أن تُمنح لأي مخلوق؟

يا تُرى، كيف يكون شعورها وهي ترى الكون من ذلك العلو، تخترق الهواء بجناحيها؟

وضعت في قرارة نفسي أنني لا بدّ أن أشاركها التحليق يومًا ما.

لم أكن أعرف شيئًا عن الهندسة أو الحرف اليدوية آنذاك،

لكنني جعلت هذا الحلم هدفي، وعملت بجد حتى تعلمت الكثير عن الطيور وبنيتها،

وحاولت محاكاتها إلى أن وصلت إلى نموذجي الحالي، الذي سأجربه في المهرجان هذا العام،

حتى لو اضطررت إلى مرافقة واحدة من فتيات البلدة.

أسرعت نحو اللوح المخصص لتصميماتي ودوّنت قائمة بأسماء الفتيات المحتملات.

كانت القائمة قصيرة: ستّ فتيات فقط.

ألغيت اثنتين لضحالتهما، وثالثة لثقل دمها.

بقي ثلاث، فاستبعدت واحدة لتبرجها المبالغ فيه، وأخرى لصوتها المرتفع.

لم يتبقَّ سوى داليا، صاحبة استراحة الألعاب في الناحية الشرقية من البلدة.

لم أضيع وقتًا. ارتديت ما بدا لي مناسبًا وانطلقت نحو الاستراحة.

كانت طرقات البلدة لامعة برذاذ المطر الصباحي،

يُشعّ البازلت كأن الطريق صفحة من بحيرة رائقة.

وصلت إلى المبنى الأزرق ذي الباب المرتفع وصعدت الدرجات.

طرقت الباب بهدوء فانفتح تلقائيًا بصوت معدني يحاكي ألعاب الحاسب، يدعوني للدخول.

كانت تلك المرة الأولى التي أدخل فيها استراحة الألعاب رغم دعوات أصدقائي المتكررة.

ناديت:

– داليا، أأنتِ هنا؟

جاءني صوتها من الطابق العلوي تدعوني للصعود.

كان المكان نصف مظلم، الجدران مطلية بلون أزرق داكن يشبه ظلمة الليل،

تتخللها خطوط فسفورية مضيئة تجعل الجو أشبه بلوحة من داخل لعبة إلكترونية.

صعدت فوجدتها تجلس مع عدد من صديقاتها على أريكة عريضة يشاهدن مسلسلًا.

ما إن رأتني حتى قامت نحوي وأخذت بيدي إلى غرفة جانبية خالية.

بعد الترحيب، استأذنت لتُعد قدحين من الشاي، فطلبتُ منها القهوة.

ضحكت ضحكة قصيرة وهي تستجيب لطلبي.

تأملت المكان: شاشة كبيرة، أريكة مريحة، طاولة صغيرة عليها مطفأة وجهاز ألعاب حديث.

عادت سريعًا بالقهوة وجلست مقابلي.

أسندت ظهري وقلت مباشرة:

– داليا، هل ترافقيني إلى القاطرة الطائرة في المهرجان؟

اتسعت عيناها دهشة وقالت:

– أنت آخر من توقعت أن يطلب مني هذا! تلقيتُ عدة عروض من قبل، لكنني رفضتها لأسبابي الخاصة.

بدا الضجر على وجهي، فأضافت بسرعة:

– لكني أوافق أن أرافقك. أظن أن في رأسك فكرة مجنونة تريد تنفيذها،

ولعلها لا تنتهي بكارثة في القاطرة الطائرة!

ابتسمتُ رغمًا عني، وأمسكت بأطراف أناملها شاكرًا بصدق.

لطالما رأيتُ داليا فتاة مميزة:

هي الوحيدة بين صديقاتها التي تملك مشروعًا خاصًا،

صحيح أنه لا يضيف للبلدة سوى مزيد من إضاعة الوقت للشباب،

لكنه مصدر دخلها واستقلالها. فضلاً عن تفوقها الدراسي أيام الثانوية.

ورغم جديتها، كانت تهتم بمظهرها،

وأكثر ما يميزها شعرها القصير، الذي كانت تقصّه رغم موضة إطالته بين فتيات البلدة.

اتفقنا على الموعد: مساء اليوم الثالث، بعد أن يخفّ الزحام حول القاطرة.

وفي اليوم الموعود، ساعدتني داليا في حمل أجزاء الطائرة،

وضعناها في حقيبتين كبيرتين واستخدمنا المصعد مرارًا لإخفائهما عن الأنظار.

أعددنا كل شيء في مؤخرة القاطرة، قرب النافذة الخلفية الكبيرة.

متظاهرًا بأنني سأقدّم عرضًا ترفيهيًا، أعددت طائرتي الشراعية،

أمسكت بالمقبضين، نظرت إلى الساحة البعيدة،

ثم... قفزت.

ظنّ الحاضرون أنني ألقيت بنفسي إلى الهلاك،

لكن حساباتي كانت دقيقة.

شعرت بالرياح ترفع الطائرة وجسدي معها،

وانطلقت أشق عباب السحاب.

غمرتني سعادة لا توصف.

هذا إذًا هو شعور الطير في الفضاء!

فجأة سمعت صوت إنذار متكرر يأتي من مكان ما.

لم أضع أي جهاز إنذار في الطائرة...

غادرتُ الحالة بين الحلم واليقظة، فتحت عينيّ قليلًا،

فرأيت الشمس تتسلل من النافذة،

وأدركت أنني استيقظت من النوم.

Monday, October 27, 2025

ملفات.. مخفية

لابد من تغيير جهاز الحاسب هذا.. لم يعد هذا الأداء مقبولًا بحق. ولقد سوّفت هذا الموضوع لعدة شهور الآن، وأظن أنه آن الأوان أن يرقد في سلام على طاولة أحد غيري، ممن قد يسمح له وقته بالانتظار كل تلك الدقائق لتحميل برنامج ما.

 لطالما كان ضيق الخُلُق من سِمَتي، وكثيرًا ما ضيّع عليّ فرصًا أو فوّت عليّ مكاسب. ولكن هذا أمر ليس بيدي. أجدني رغمًا عني، وعندما أبدأ حوارًا ما، أتكلم مباشرة عن نهايات الكلام بدون أن أراعي أي استراتيجية أو رَوِيّة في انتظار كلمات الطرف الثاني. أجد أفعال الآخرين متوقعة لحد لا يُصدّق، حتى أني لأكاد أسمع طرفي الحوار الذي أنا جزء منه..  يتكلمان في كل تفاصيله حتى قبل أن يبدأ.

  لا أنكر أنه أحيانًا يكون شيئًا مسليًا للغاية، وخاصة إذا كنت تحب سماع ما سيلقى عليك، سواء كان مدحًا أو لومًا، لكنه مع ذلك و في معظم الأحيان مزعج. أذكر أني قلت يومًا إن الناس تدخن ليس حبًا في التدخين، ربما يكون نوعًا من الإدمان، ولكن منبعه في الأساس هو الفراغ. فالتدخين هو الأنشغال الوحيد الذي تستطيع أن تقوم به مهما كان وضعك ووقتك وطبيعتك.

 ولعل الهاتف اليوم قد حل محل التدخين بشكل كبير، فأصبح يملأ وقتك سواء بشيء مهم أو كلام فارغ، لكنه على الأقل يبقيك مشغولًا. هناك أشخاص أجدهم مشغولين بهوايات يدوية، وهم أشخاص أعتبرهم أبطالًا. فلا أظنني أمتلك القدرة على البقاء أمام لوحة ما أضع عليها اللآلئ واحدة بعد الأخرى، ولا حتى أمام كتلة كبيرة من الخيوط ليخرج منها في النهاية ما أعرف شكله قبل حتى أن أبدأ.

 لعل هذا ما جعل الصيد هوايتي المفضلة. الصيد بالنسبة لي نوع من البخت. لا يمكنك الجزم، مهما كنت محترفًا، بما سيرزقك به الله في نهاية رحلة الصيد، وعليه فأنت في كل مرة أملًا في الرزق الوفير تُجرّب حظك. هذا ما يجعله مثيرًا.

 الكتابة بالنسبة لي كذلك، فهي تجعلني أتشوق في كل مرة لما ستكتبه يدي. فعندما أبدأ تكون الصفحة البيضاء كسماء لمحيط من الزرقة، وأنا أقف على شاطئه بلا طوفٍ ولا شراع. أنظر للأفق غير عالمٍ إذا كنت في النهاية سأملك سفينة تحملني فوق عبابه، أو زورقًا سرعان ما ينقلب وأسقط في زرقته خالي الوفاض في النهاية.

 كنا في طفولتنا نشتري تلك الحلويات التي تشبه القُرطاس وفي نهايتها ملعقة من العسل الأسود. أتذكر أن قيمتها كانت خمسة قروش أو نحوها، وربما كانت الخمس قطع بخمسة قروش، لكنها كانت تحتوي أحيانًا، وبنسبة ضئيلة للغاية، على خمسة قروش داخل واحدة منها، مما جعلها حلوتي المفضلة في طريقي للمدرسة، أملا في الخمسة قروش المختبئة.

 والآن لنعد لهذا الجهاز البطيء الذي يظهر ما أكتبه بعد عدة ثوانٍ من كتابته، والذي أعرف أني أضغط عليه رغمًا عنه. ولتَهنَأْ بالًا يا رفيق الخمس سنوات الماضية، فقد حان وقت تقاعدك، ولكن بقي لدي عليك عمل في منتهى الأهمية. هذه الحافظات المليئة بالملفات التي أبقيتها هناك في وحدة التخزين الإضافية لأني يومًا ما سأقوم بتنظيمها وتبويبها، وها قد مرت الأعوام ولم أمسها. تبدو تلك الملفات كغابة من الأشجار المتلاصقة، قد تحتاج دهرًا لفتح طريق بينها، ولكني لابد أن أبدأ على كل الأحوال.

 والآن بعد أن مرت عدة ساعات من التوغل في أدغال الملفات تلك، وقد بدأ الملل يُجهّز جعبته ليلقي سهامه نحوي، وصلت لهذا المجلد. لم أنسَ مكانه، ولكني كعادتي.. أجعل لملفاتي المهمة وضعًا خاصًا.. فأنا أبقيها تحت ستار كثيف من التعمية حتى ليكون من الصعب، إن لم أجرؤ على القول إنه من المستحيل الوصول لها بدون توجيه مباشر مني، ناهيك عن استخدام عدد من كلمات المرور المعقدة التي تحميها حتى إذا استطاع متلصص ما أن يصل لها بدون إذني.

 ترددت لحظة وأنا أعطي الجهاز الأمر بفك الضغط عنها، لكني قررت في النهاية أن هذا هو الوقت المناسب لمراجعتها وربما الاستجابة لطلب صاحبتها في أن أزيلها مرة واحدة وإلى الأبد. فتحت الملف الكبير الذي تجمعت فيه الصور عبر السنين، وانفلتت من قلبي دقة تهاجمني وأعرفها عندما أشعر بكل تلك المشاعر تفيض فجأة بين جنباته. والتقت عيني بالعيون والابتسامات والكلمات السريعة غير المفهومة، والإشارات الواضحة والخفية. وبينما أقضي مع كل لون في كل صورة وقتي، نسيت تمامًا موضوع جهاز الحاسب وتصفية الملفات والفجر الذي أصبح وشيكًا.

 وبين الصور وجدت كلمات خطتها بأصابع مرتعشة:

 "علمتني كل حاجة بس معلمتنيش أبطل أحتاجلك"

 ارتبكت من بنية العبارة وأحسست أني فقدت للحظة القدرة على التمييز بين الكلمات والمعاني. التناقض في العبارة مطلق بالنسبة لي، فكيف أعلمك وأنا بجوارك ألا أكون بجوارك؟ وكيف تظنين أني أفعلها وأنا صاحب الوعد وقاطعه الأول باستجابتي للنداء لآخر العمر؟ لم أفهم وقررت التجاوز للسطر التالي: "المقاومة صعبة عليّا"

 ومتى كانت المقاومة عملًا سهلًا؟ وهل ظنّت وهي تكتب تلك الكلمات أني أحسن حالًا بشكل من الأشكال؟

  وهنا ضربتني الكلمات التالية ضربة أحسست بأثرها على صدري، وكأنها تقف أمامي كطفلة تقول وهي تبكي محتجة:  "أنا في أضعف حال" وهي تعلم أن تلك نقطة ضعفي جيدًا، ختمت كلماتها القصيرة: "والله مش كويسة ادعيلي"

 أصبحت الكتابة الآن عبئًا على عقلي، وأصبحت أُجاهد لأكمل تلك الكلمات. وأقول إني لست أفضل من يقوم بهذا الدور، فلا أظنني قريبًا ممن أدعوه إلا بمقدار عطفه عليّ، وكل ما لي عنده هو الأمل الذي آمل ألا يُوردني حيث لا أرجو.

 أغلقت الملف وأعدت ضغط الحافظة، وقد قررت أني لن أمسحها ولن أفك ضغطها مرة ثانية. ستبقى هنا في مكانها الذي اخترته لها، كما تبقى صاحبتها في مكانها داخلي تمامًا.

 أطفأت الجهاز وقد فقدت كل رغبتي في عمل أي شيء آخر اليوم، وتوجهت نحو سريري المبعثر وخلدت للنوم.

Monday, October 20, 2025

حلم وقمر

 صاحت أمي من المطبخ تنادي عليَّ لأستيقظ، وهي تقول بصوت عالٍ بالتأكيد سمعته طنط جوزفين وعم عدلي في الشقة المقابلة

"يا بني، قوم، أبوك زمانه جاي من الشغل، أنت ما عندكش كلية النهارده!"

سمعتها وأنا غارق في النوم، فتململت في فراشي وأنا أستعد لاستكمال الحلم الذي عادةً لا أذكر منه شيئًا عندما أستيقظ.

صوت زخّات المطر المنهمر على النافذة يبدو قويًا وينذر بأسبوع من المطر والبرد والشجن، وهي الصفة التي تلتصق بالشتاء والبرد عندي، وتمنحني متعة ورضًا نفسيًا وعاطفيًا لا يُضاهى بأي إحساس آخر.

وبالرغم من المساحة الضيقة التي بيننا وبين العمارة المقابلة، إلا أني أسمع صوت المطر جيدًا وكأنه صوت محبّب يملأ الخلفية.

مددت يدي أستند على الحائط وأنا مستلقٍ كعادتي عندما أستيقظ من النوم، ونظرت نحو المكتب الجانبي الذي يرقد عليه جهاز الكمبيوتر، ومن فوقه تلك الصورة الجميلة لأمي يوم زفافها.

كم كانت جميلة هذه المرأة العشرينية السكندرية! لابد أن أبي الفلاح قد وقع في حبها من أول نظرة.

ابتسمت للخاطر ولمحت الهاتف الذي يبدو أنه بات ليلته معي في الغرفة، لابد أن أُخرجه إلى الصالة قبل أن يحضر والدي ويحدث ما لا تُحمد عقباه.

اعتدلت أنظر نحو نتيجة الحائط الكبيرة التي طُبع عليها بحروف واضحة بخط النسخ: مطابع محرم.

نتيجة يحضرها لنا خالي كل عام، وعلى ما يبدو فهو يعمل في مطابع محرم تلك، وعلى ما يبدو أيضًا أنها شركة حكومية فحاله رقيق مثلنا تمامًا، ولولا سفر أبي إلى الخليج عدة سنوات في منتصف الثمانينيات لما تحسن الحال كثيرًا.

نظرت نحو النتيجة بتعمّق أكثر، فرأيت التاريخ بوضوح، ورأيت سنة خمسة وتسعين بخط كبير بجوار التسعة عشر الصغيرة.

وقفت ثم انتبهت... ماذا يحدث؟ هذا البيت، هذه الأصوات، تلك الجدران، صوت أمي والمطر، وأبي القادم من العمل... أين أنا؟

هذه الصور على الحائط، صورتي التي رسمها ماجد بألوان الفحم، أجندتي ذات الغلاف النبيتي التي أكتب فيها خواطري تقبع على المكتب.

هل هذا حلم؟ بالتأكيد هو حلم. أنا أعيش في المستقبل الآن، وكل هذا اختفى... حتى أمي.
أمي...

خذلتني قدماي فجلست على السرير مذهولًا مما يحدث، لم أفهم، ولم يستطع عقلي استيعاب الأمر.

خرجت حافيًا نحو المطبخ فرأيتها منشغلة بإعداد ما تجهّزه للغداء، وهي تترنم بأغنيتها المفضلة لعزيزة جلال:

"هو الحب لعبة؟"

كلّمتها وصوتي يترقرق، لا أصدق أني أراها أمامي:

"ماما..."

قالت بابتسامة محفورة في عقلي وقلبي:

"ولا يا حودة، أنت لسه نايم؟ الساعة اتناشر، وأبوك لو جه ولقاك نايم هيعمل مشكلة!"

قبّلت رأسها وأنا أقول بصوت متهدّج رغمًا عني:

"حاضر، نازل أهوه..."

عدت إلى الغرفة وأنا ما زلت لا أصدق ما يحدث، وقررت أن أستلقي على السرير،
لا أريد لهذا الحلم أن ينتهي...

ورغمًا عني استغرقت في النوم.

Saturday, October 4, 2025

حلم ورؤيا

اخترت للمذياع الذي اشتريته حديثًا مكانًا مناسبًا على الطاولة الضيقة بما عليها. قلما أضيف إلى غرفتي أي أجهزة. في العادة يكفيني جهاز الحاسب عن التلفاز والراديو ومشغل الصوتيات وكل ذلك. وعلى الرغم مني، وعندما دخلت إلى ذلك المتجر القديم، لم أملك إلا أن أشتري هذا الجهاز العتيق. شيئًا ما اقتادني لأن أعرج بعد عملي على الشارع التجاري، وبالرغم من أنه ليس الطريق المعتاد الذي أنهي به يومي، ولكني ولسبب ما ألح على عقلي قررت أن أقضي بعض الوقت هناك قبل أن أعود للبيت.

ولاحظت هذا المتجر ذو الواجهة المتربة، ويبدو أنه كان مقفلًا منذ عدة عشرات من السنين. وكان واضحًا من حركة الناس وكلامهم أن المكان كان ملكًا لشخص ما وظل مغلقًا لفترة طويلة، ويبدو أن مالكه الجديد قرر التخلص من محتوياته بأي مبلغ يستطيع المارة تحمله. دخلت بدافع الفضول والاستمتاع بالأشكال القديمة للأجهزة. لكن هذا المذياع لفت انتباهي بشدة، وتوجهت للمسؤول مباشرة أسأله: "للبيع ده؟" فنظر لي مبتسمًا: "كله للبيع". قلت مستطردًا: "بكام؟" قال: "هات اللي تجيبه يا أستاذ، كلها بضاعة قديمة، واللي مش حيشتريه الناس بكرة حيتباع لبتوع الخردة".

أشفقت على المذياع العتيق والذي علاه الغبار بشكل مزر. أخرجت ورقتين ونقدتهما للمسؤول، فنظر لي راضيًا وقال: "حلال عليك". بحثت حولي عن حقيبة أحمل فيها المذياع الكبير، لكنه كان خفيفًا لدرجة لا تصدق. لحسن الحظ وجدت ما بدا حقيبة كبيرة من القش، فنظرت للرجل مستأذنًا فأومأ برأسه. وضعت فيها الجهاز وخرجت نحو الشارع سعيدًا بغنيمتي.

حالما وصلت للبيت طفقت أقوم باستعادة رونق الجهاز، ولشد ما هالتني الحالة الممتازة التي كان عليها. وبعد مجهود من شفط الأتربة وإزالة العوالق وتلميع عروق القشرة الخشبية البنية، بدأت ملامح هذه التحفة الفنية تبدو واضحة للعيان. بقي أن أوصله بالكهرباء لأرى هل مازالت تلك "الصمامات المفرغة" العتيقة تعمل أم تقاعدت كحقبة الجهاز البائدة.

تأكدت من فئة مدخل الطاقة، لأني تذكرت أننا في أوائل الثمانينات كان لدينا تلفاز هائل الحجم تعرض شاشته الصور باللونين الأبيض والأسود، وكان يحتاج إلى جهاز ثقيل الوزن للغاية كنا نسميه "الترانس". وهو محول للطاقة من مائة وعشرة فولتات إلى مئتين وعشرين. ويبدو أن تلك الأجهزة كانت قادمة من الولايات المتحدة أو كندا، والتي حتى اليوم تعتمد نظام المائة وعشرة فولتات في طاقتها الكهربية. وكانت المفاجأة السعيدة: انطلق صوت التشويش واضحًا من سماعة الجهاز.

حملته نحو مستقره على الطاولة ثم وضعته في محله. بعدها قمت بتعديل الهوائي والعبث بمولف المحطات حتى استطعت التقاط واحدة من الإذاعات القليلة التي مازالت تذيع على نظام تعديل السعة "AM"، والتي كادت أن تنقرض تقريبًا بعد سيطرة نظام تعديل التردد المعروف باسم "FM". والتقط الجهاز الصوت الشجي للسيدة أم كلثوم وهي تقول في لحظة خالدة: "سنين ومرت زي الثواني في حبك انت".

تركت المذياع دائرًا بعد أن خفضت الصوت لأقل درجة ممكنة. أنهيت واجباتي المنزلية وجلست أكتب بضعة سطور خطرت ببالي قبل النوم، وتركت الأوراق والقلم الرصاص المفضل لي عن أي أقلام أخرى، وتوجهت للسرير المجاور للطاولة لأخلد للنوم.

فزعت على صوت يتكلم في الغرفة. كنت مشوشًا في البداية من مصدر الصوت، ولكن الصوت المتكلم كان قادما من زاوية المذياع الجديد. هدأ روعي كثيرًا عندما عرفت أن مصدر الصوت. وقررت وأنا نصف نائم أن أطفئه. وعندما اقتربت من الطاولة بدأت أسمع صوت المتكلمة الهادئ الدافئ بوضوح. كان يبدو وكأنها تقرأ عبارات ما وتكررها بصوتها المميز في أذني.

فركت عيني في استغراب. أكاد أقسم أني أعرف هذا الصوت. ونظرت حولي أحاول التأكد أني لست أحلم. وبرغم من عدم وجود أضواء بالغرفة إلا أني أمسكت بذراعي ضاغطًا عليها، فهي تؤلمني عند مفصل الكتف منذ مدة، وكان صدح الألم دليلًا على أني مستيقظ بشكل كلي. جلست على الكرسي أمام الطاولة مشدوهًا. لم أسمع هذا الصوت المحبب منذ مدة طويلة.

لابد أن مصدر الصوت واحد من أجهزة الإرسال المنزلي التي انتشرت في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، واستخدمها الناس لبث الإذاعات من بيوتهم مباشرة، وكان هناك من ينسونها مفتوحة فتذيع أسرار بيوتهم على الباحثين عن الموجات كحالتي. واستمر الوضع كذلك لفترة قبل أن يُفطن إليها فتمنع تمامًا.

أضأت مصباح الطاولة الصغير ذو الضوء الأصفر الدافئ و اتسعت عينيّ في دهشة عندما ارتفع صوت الراديو من تلقاء نفسه وكأنه أدرك أني أصبحت جالسًا أمامه أستمع له، وانتشر الصوت الهاديء في المكان: "أكلم مين وانت عارف إنك كل حاجة". كتبت العبارة على الورق أمامي وبدأت الأفكار تنسال في عقلي. هل هذا سؤال؟ لا، ليس سؤالًا بل هو تقرير حالة. فالصوت يخبرني أني.. أني كل شيء.. وبرغم ان العبارة ليست واضحة.. لكني فهمت المقصود والمغزي من وراء البداية المشوشة.

نظرت بطرف عيني للمرأة بجانبي لأتأكد من أني وحدي بالغرفة، وأن الصوت مازال يخرج من المذياع وليس من عقلي. "أوقات بقول لنفسي انتي اتحبيتي بجد، هو عرف يحبك بكل الطرق، إحساسه وصلك". أحسست أن العبارة مقطوعة وكنت لأستحث قائلتها على أن تتوقف وتعيدها مرة أخرى بعد أن تكملها، ولكنها واصلت تكرار عباراتها بإصرار جعلني أشك أن هذا حلم. ولكن ملمس الورق والقلم بين يدي يصران على العكس.

"فيك كل حلوة يتمناها أي حد من بعيد. الحنية والود والحزم للمصلحة، والعطاء من غير حدود، والحضن الدافي والأمان والسكون". بدا لي هنا أنها مازالت تتكلم عني. أنا.. أنا أحمل تلك الصفات. شعرت بالإطراء رغمًا عني، وأحببت أن يمتدحني الصوت المحبب برغم مقتي للمدح في غير موضعه، ولكن بدا لي وقتها أن هذا موضعه المناسب تمامًا.

"ما بالك باللي عاشها وجربها وداقها وعرف طعمها، عرف الفرق بين الموت والحياة، بين النور والظلمة، بين الأسود والألوان". وعندما سمعت هذه العبارة بدا لي أنها تسهب. لكنى وعندما كررت العبارة عدة مرات.. عرفت انها لم تستطرد عندما ذكرت الاضداد متتالية.. فالموت والحياة هما حالتان فاصلتان بين لقائنا وغيابي عن حياتها..  والنور والظلمة.. هو الوصف الصحيح لظلمة أوقات الأنتظار وسطوع شعاع ضوء الوصال.. والأسود والالوان.. يصفان وببراعة تباين الاوقات بين البعد وتخييم الأسود عليه و جمال الأطياف من الالوان التي تحف الوجود في وجودنا سويًا.. هل أتى صوتها من عالم الموجات، هناك ما وراء الصحاري والمدن والبحار، ليخبرني أني أصنع فرقًا؟

"أنت في كل مكان، في كل موقف. والغالب في الوحدة اللي هي بتبقى في وسط كل الناس. وانت الونس وأنا لوحدي". كدت أرد عليها وأقول: أني أدركتِ تلك الحقيقة مبكرا للغاية. وأن المشاعر الحقيقية التي يحملها الإنسان تغنيه عن كل البشر  وتذكرت حين أخبرتها للمرة الأولى أنك ستدركين معني كلمة "وحشتني" قريبا .

"حاجة غريبة.. المشترك في قربنا وبعدنا نفس الحيرة. هو أنا فعلًا سكنت في قلبك ولا كان عطف منك؟ حيرة بتهدني، بتوصلني لحالة من الجنون". كدت أمد يدي وأغلق المذياع عندما سمعت هذه العبارة وهي تتكرر عدة مرات. ها هي تعود لكلماتها المؤلمة، ورغبتها الملحة في أن تأطرني داخل إطار ما يلائم انفعالاتها وأفكارها. لكني صمت لأسمح لنفسي بأن أسمع العبارة وأدونها كما هي:

"لا أنا مكنتش عروسة ماريونيت وانت بتنبسط بيها. انت كنت بتحاول تعرفني وتعرف حياتي وتختبرني بالطريقة، وتحاول تلاقي مسمى وسبب للحالة اللي وصلنا لها وتديها زي وصف عام".

عرفت أنها ستذكر هذا التشبيه. وتعمدت حين رسمتها في شكل تلك العروسة لأن أجعلها ترى ذلك.. حاولت وقتها أن أجعل حملها "للمنصة" أو "الصليبة" التي تنسدل منها الخيوط التي تتحكم بالعروسة في يديها هي، لتعلم أنها هي من تملك الخيوط ولا أحد آخر. ويبدو أنها أدركت تلك الحقيقة، فكلماتها تحمل من العقلانية والاتزان ما هو غريب عليها.

"انت عارف إن اللون اللي بقى بيخليني أحس بالبهجة بتطل عليه الأصفر. هو غالبًا مش اللون على قد ما هو حاجة منك بتفرحني".

اتسعت ابتسامتي وأنا أسمع هذه العبارة التي بدت أنها تنهي بها كلماتها، لأن صوتها بدأ يخفت. ثم بدأ المذياع يذيع أغنية قديمة لإيهاب توفيق. استمتعت للأغنية، وكدت أمد يدي لأغلق المذياع، لكني ترددت خوفًا من أن يقول الصوت شيئًا ولا أكون موجودًا لأسمعه.

وقررت أن أتركه يبث أغانيه القديمة. توجهت نحو سريري وأنا أشعر بالخدر يسري في عقلي، واستلقيت، واستغرقت في النوم.