Monday, October 27, 2025

ملفات.. مخفية

لابد من تغيير جهاز الحاسب هذا.. لم يعد هذا الأداء مقبولًا بحق. ولقد سوّفت هذا الموضوع لعدة شهور الآن، وأظن أنه آن الأوان أن يرقد في سلام على طاولة أحد غيري، ممن قد يسمح له وقته بالانتظار كل تلك الدقائق لتحميل برنامج ما.

 لطالما كان ضيق الخُلُق من سِمَتي، وكثيرًا ما ضيّع عليّ فرصًا أو فوّت عليّ مكاسب. ولكن هذا أمر ليس بيدي. أجدني رغمًا عني، وعندما أبدأ حوارًا ما، أتكلم مباشرة عن نهايات الكلام بدون أن أراعي أي استراتيجية أو رَوِيّة في انتظار كلمات الطرف الثاني. أجد أفعال الآخرين متوقعة لحد لا يُصدّق، حتى أني لأكاد أسمع طرفي الحوار الذي أنا جزء منه..  يتكلمان في كل تفاصيله حتى قبل أن يبدأ.

  لا أنكر أنه أحيانًا يكون شيئًا مسليًا للغاية، وخاصة إذا كنت تحب سماع ما سيلقى عليك، سواء كان مدحًا أو لومًا، لكنه مع ذلك و في معظم الأحيان مزعج. أذكر أني قلت يومًا إن الناس تدخن ليس حبًا في التدخين، ربما يكون نوعًا من الإدمان، ولكن منبعه في الأساس هو الفراغ. فالتدخين هو الأنشغال الوحيد الذي تستطيع أن تقوم به مهما كان وضعك ووقتك وطبيعتك.

 ولعل الهاتف اليوم قد حل محل التدخين بشكل كبير، فأصبح يملأ وقتك سواء بشيء مهم أو كلام فارغ، لكنه على الأقل يبقيك مشغولًا. هناك أشخاص أجدهم مشغولين بهوايات يدوية، وهم أشخاص أعتبرهم أبطالًا. فلا أظنني أمتلك القدرة على البقاء أمام لوحة ما أضع عليها اللآلئ واحدة بعد الأخرى، ولا حتى أمام كتلة كبيرة من الخيوط ليخرج منها في النهاية ما أعرف شكله قبل حتى أن أبدأ.

 لعل هذا ما جعل الصيد هوايتي المفضلة. الصيد بالنسبة لي نوع من البخت. لا يمكنك الجزم، مهما كنت محترفًا، بما سيرزقك به الله في نهاية رحلة الصيد، وعليه فأنت في كل مرة أملًا في الرزق الوفير تُجرّب حظك. هذا ما يجعله مثيرًا.

 الكتابة بالنسبة لي كذلك، فهي تجعلني أتشوق في كل مرة لما ستكتبه يدي. فعندما أبدأ تكون الصفحة البيضاء كسماء لمحيط من الزرقة، وأنا أقف على شاطئه بلا طوفٍ ولا شراع. أنظر للأفق غير عالمٍ إذا كنت في النهاية سأملك سفينة تحملني فوق عبابه، أو زورقًا سرعان ما ينقلب وأسقط في زرقته خالي الوفاض في النهاية.

 كنا في طفولتنا نشتري تلك الحلويات التي تشبه القُرطاس وفي نهايتها ملعقة من العسل الأسود. أتذكر أن قيمتها كانت خمسة قروش أو نحوها، وربما كانت الخمس قطع بخمسة قروش، لكنها كانت تحتوي أحيانًا، وبنسبة ضئيلة للغاية، على خمسة قروش داخل واحدة منها، مما جعلها حلوتي المفضلة في طريقي للمدرسة، أملا في الخمسة قروش المختبئة.

 والآن لنعد لهذا الجهاز البطيء الذي يظهر ما أكتبه بعد عدة ثوانٍ من كتابته، والذي أعرف أني أضغط عليه رغمًا عنه. ولتَهنَأْ بالًا يا رفيق الخمس سنوات الماضية، فقد حان وقت تقاعدك، ولكن بقي لدي عليك عمل في منتهى الأهمية. هذه الحافظات المليئة بالملفات التي أبقيتها هناك في وحدة التخزين الإضافية لأني يومًا ما سأقوم بتنظيمها وتبويبها، وها قد مرت الأعوام ولم أمسها. تبدو تلك الملفات كغابة من الأشجار المتلاصقة، قد تحتاج دهرًا لفتح طريق بينها، ولكني لابد أن أبدأ على كل الأحوال.

 والآن بعد أن مرت عدة ساعات من التوغل في أدغال الملفات تلك، وقد بدأ الملل يُجهّز جعبته ليلقي سهامه نحوي، وصلت لهذا المجلد. لم أنسَ مكانه، ولكني كعادتي.. أجعل لملفاتي المهمة وضعًا خاصًا.. فأنا أبقيها تحت ستار كثيف من التعمية حتى ليكون من الصعب، إن لم أجرؤ على القول إنه من المستحيل الوصول لها بدون توجيه مباشر مني، ناهيك عن استخدام عدد من كلمات المرور المعقدة التي تحميها حتى إذا استطاع متلصص ما أن يصل لها بدون إذني.

 ترددت لحظة وأنا أعطي الجهاز الأمر بفك الضغط عنها، لكني قررت في النهاية أن هذا هو الوقت المناسب لمراجعتها وربما الاستجابة لطلب صاحبتها في أن أزيلها مرة واحدة وإلى الأبد. فتحت الملف الكبير الذي تجمعت فيه الصور عبر السنين، وانفلتت من قلبي دقة تهاجمني وأعرفها عندما أشعر بكل تلك المشاعر تفيض فجأة بين جنباته. والتقت عيني بالعيون والابتسامات والكلمات السريعة غير المفهومة، والإشارات الواضحة والخفية. وبينما أقضي مع كل لون في كل صورة وقتي، نسيت تمامًا موضوع جهاز الحاسب وتصفية الملفات والفجر الذي أصبح وشيكًا.

 وبين الصور وجدت كلمات خطتها بأصابع مرتعشة:

 "علمتني كل حاجة بس معلمتنيش أبطل أحتاجلك"

 ارتبكت من بنية العبارة وأحسست أني فقدت للحظة القدرة على التمييز بين الكلمات والمعاني. التناقض في العبارة مطلق بالنسبة لي، فكيف أعلمك وأنا بجوارك ألا أكون بجوارك؟ وكيف تظنين أني أفعلها وأنا صاحب الوعد وقاطعه الأول باستجابتي للنداء لآخر العمر؟ لم أفهم وقررت التجاوز للسطر التالي: "المقاومة صعبة عليّا"

 ومتى كانت المقاومة عملًا سهلًا؟ وهل ظنّت وهي تكتب تلك الكلمات أني أحسن حالًا بشكل من الأشكال؟

  وهنا ضربتني الكلمات التالية ضربة أحسست بأثرها على صدري، وكأنها تقف أمامي كطفلة تقول وهي تبكي محتجة:  "أنا في أضعف حال" وهي تعلم أن تلك نقطة ضعفي جيدًا، ختمت كلماتها القصيرة: "والله مش كويسة ادعيلي"

 أصبحت الكتابة الآن عبئًا على عقلي، وأصبحت أُجاهد لأكمل تلك الكلمات. وأقول إني لست أفضل من يقوم بهذا الدور، فلا أظنني قريبًا ممن أدعوه إلا بمقدار عطفه عليّ، وكل ما لي عنده هو الأمل الذي آمل ألا يُوردني حيث لا أرجو.

 أغلقت الملف وأعدت ضغط الحافظة، وقد قررت أني لن أمسحها ولن أفك ضغطها مرة ثانية. ستبقى هنا في مكانها الذي اخترته لها، كما تبقى صاحبتها في مكانها داخلي تمامًا.

 أطفأت الجهاز وقد فقدت كل رغبتي في عمل أي شيء آخر اليوم، وتوجهت نحو سريري المبعثر وخلدت للنوم.

No comments: