صاحت أمي من المطبخ تنادي عليَّ لأستيقظ، وهي تقول بصوت عالٍ بالتأكيد سمعته طنط جوزفين وعم عدلي في الشقة المقابلة
"يا بني، قوم، أبوك زمانه جاي من
الشغل، أنت ما عندكش كلية النهارده!"
سمعتها وأنا غارق في النوم، فتململت في فراشي وأنا أستعد
لاستكمال الحلم الذي عادةً لا أذكر منه شيئًا عندما أستيقظ.
صوت زخّات المطر المنهمر على النافذة يبدو قويًا وينذر بأسبوع
من المطر والبرد والشجن، وهي الصفة التي تلتصق بالشتاء والبرد عندي، وتمنحني متعة
ورضًا نفسيًا وعاطفيًا لا يُضاهى بأي إحساس آخر.
وبالرغم من المساحة الضيقة التي بيننا وبين العمارة المقابلة،
إلا أني أسمع صوت المطر جيدًا وكأنه
صوت محبّب يملأ الخلفية.
مددت يدي أستند على الحائط وأنا مستلقٍ كعادتي عندما أستيقظ من
النوم، ونظرت نحو المكتب الجانبي الذي يرقد عليه جهاز الكمبيوتر، ومن فوقه تلك
الصورة الجميلة لأمي يوم زفافها.
كم كانت جميلة هذه المرأة العشرينية السكندرية! لابد أن أبي
الفلاح قد وقع في حبها من أول نظرة.
ابتسمت للخاطر ولمحت الهاتف الذي يبدو أنه بات ليلته معي في
الغرفة، لابد أن أُخرجه إلى الصالة قبل أن يحضر والدي ويحدث ما لا تُحمد عقباه.
اعتدلت أنظر نحو نتيجة الحائط الكبيرة التي طُبع عليها بحروف
واضحة بخط النسخ: مطابع
محرم.
نتيجة يحضرها لنا خالي كل عام، وعلى ما يبدو فهو يعمل في مطابع
محرم تلك، وعلى ما يبدو أيضًا أنها شركة حكومية فحاله رقيق مثلنا تمامًا، ولولا
سفر أبي إلى الخليج عدة سنوات في منتصف الثمانينيات لما تحسن الحال كثيرًا.
نظرت نحو النتيجة بتعمّق أكثر، فرأيت التاريخ بوضوح، ورأيت سنة
خمسة وتسعين بخط كبير بجوار التسعة عشر الصغيرة.
وقفت ثم انتبهت... ماذا يحدث؟ هذا البيت، هذه الأصوات، تلك
الجدران، صوت أمي والمطر، وأبي القادم من العمل... أين أنا؟
هذه الصور على الحائط، صورتي التي رسمها ماجد بألوان الفحم،
أجندتي ذات الغلاف النبيتي التي أكتب فيها خواطري تقبع على المكتب.
هل هذا حلم؟ بالتأكيد هو حلم. أنا أعيش في المستقبل الآن، وكل
هذا اختفى... حتى أمي.
أمي...
خذلتني قدماي فجلست على السرير مذهولًا مما يحدث، لم أفهم، ولم
يستطع عقلي استيعاب الأمر.
خرجت حافيًا نحو المطبخ فرأيتها منشغلة بإعداد ما تجهّزه
للغداء، وهي تترنم بأغنيتها المفضلة لعزيزة جلال:
"هو الحب لعبة؟"
كلّمتها وصوتي يترقرق، لا أصدق أني أراها أمامي:
"ماما..."
قالت بابتسامة محفورة في عقلي وقلبي:
"ولا يا حودة، أنت لسه نايم؟
الساعة اتناشر، وأبوك لو جه ولقاك نايم هيعمل مشكلة!"
قبّلت رأسها وأنا أقول بصوت متهدّج رغمًا عني:
"حاضر، نازل أهوه..."
عدت إلى الغرفة وأنا ما زلت لا أصدق ما يحدث، وقررت أن أستلقي
على السرير،
لا أريد لهذا الحلم أن ينتهي...
ورغمًا عني استغرقت في النوم.
No comments:
Post a Comment