Monday, May 29, 2023

أوجيني - رواية فى حلقات مسلسة (الحلقة الثالثة)

في المساء وبينما النزلاء في صالة الجلوس يشاهدون مباراة ما في التلفاز مررت بهم متجهًا إلي الخارج.. سألتني اوجيني إن كنت سأنضم لهم للعشاء فهززت رأسي نفيًا وأنا أشير إلى بطني الممتلئ من الغداء الفاخر الذي تناولته قبل قليل.. توجهت إلى المدخل لم يفتني أن ألاحظ نظرة لولا إلي أوجيني تستنكر ندائها لي وكلامها معي بتلك البساطة فتجاهلتها وخرجت.. قادتني قدمي لمقهى شعبي كبير فى نفس شارع البنسيون على بعد بضع بنايات منه.. جلست أحتسي فنجان من القهوة وأنا مازلت أصارع ذاكرتي واعتصرها لأعرف ماذا أفعل هنا ولماذا انا هنا حتى الآن.. لفت انتباهي أثناء جلستي مجموعة من الرجال يجلس بينهم رجل ضخم الجثة يرتدي ملابس تبدو فاخرة لكنها غير متناسقة يميزه جنزير كبير من الذهب يلبسه كسوار فى يده وشعرًا كثيفًا بخرج من قميصه وينمو على رقبته وقد بدا من جلسته انه كبير الجالسين فقد كانوا متوجهين إليه متسمعين لكلامه.. حولت نظري عنه شاردًا وبينما انا غارق فى أفكاري فوجئت بذات الرجل ضخم الجثة يسحب كرسيًا ويقترب من طاولتي ويجلس إليها.. نظرت له نظرة مستنكرة وأنا أتأمله عن قرب فأجاب نظرتي في لزوجة

- محسوبك شمندي.. عمر شمندي ... سمسار ومقاول..

قلت له بصوت بدا ممتعضًا رغمًا عني..

- أهلا أستاذ عمر أتفضل ولو انها متأخرة قليلًأ ..

ضحك كاشفًا عن اسنان بيضاء وإن لم يفتني أن أُلاحظ السن الذهبي الذي بدا من زاوية فمه.. وأضاف..

- لا تهتم يا أستاذ..

نطقها بإضافة واو بعد الألف وزاي بدلا من الذال.. فازداد امتعاضي وكدت أن اشيح بوجهي عنه فعاجلني..

- لا تؤاخذني فقد رأك أحد رجالي اليوم مع السيدة أوجينى في مصلحة الضرائب وسمعك وانت تقول إنك المحاسب المالي الخاص بها.. عفوًا فأنا لم أرك من قبل في السويس وأنا سويسي أبًا عن جد.. فكيف وكلتك بان تكون محاسبها؟؟

هنا كان وقت الدهشة قد انتهي ليحل محله وقت الغضب.. نظرت له نظرة متفحصة وانا أقول..

- بداية يا أخ عمر أظن أن ما سألت عنه ليس من اختصاصك ...

نظر لي مندهشًا قائلا..

- لا لا يا أستاذ.. لا ترتكب هذا الخطأ الفظيع.. انت لا تعرف من أنا.. أنك تتحدث إلى أكبر مقاول في السويس والجميع هنا يعرف من هو عمر شمندي.. وان كنت جلست اليك لأتحدث معك فهذا من باب التنازل والتباسط مع الغرباء وإلا فإن دبيب النمل فى هذه المدينة يصلني إلى مخدعي إن أردت...

نظرت له في تحد وقلت مبتسمًا ابتسامة صفراء..

- ومن يهمسون لك بدبيب النمل لم يستطيعوا أن يعرفوا من أنا وماذا أفعل هنا.. يبدو أنك محتاج لان تراجع طبيب أنف وأذن عاجلًا..

بدأ الغضب يظهر على ملامحه وهو يقول

- فليكن.. أنت تريدها بهذه الطريقة..

قاطعته منفعلا..

- ما الذي اريده ايها المتطفل.. أنت من تعدي على خصوصيتي وجلست في مجلسي بدون إذني والان تحدثني في امر شخصي لم لا سمح لك بالحديث فيه ..

بدا عليه الحرج وقد التفت كل رواد المقهى لحديثنا الشائق بالنسبة لهم فقال في سرعة..

- لا تقلق يا استاذ سيكون بيننا كلام في وقت اخر..

أجبته بسرعة

- لست قلقًا ولا اتمني ان يحدث هذا عاجلا..

ابتعد بكرسيه عن مجلسي وان ظل يحدجنى بنظرات جانبية بادلتها بنظرات مشمئزة حتى انتهيت من قهوتي وقمت متجهًا للبنسيون.. في الطريق الساكن وبعد عدة مبان رأيت شابين يستندان على سيارة متوقفة.. ألقي أحدهم سيجارته بمجرد أن رأني.. واقتربا مني في تؤدة.. قلت محدثًا نفسي.. يا له من تكرار ممل.. والآن سيطلب مني أحدهم قداحة ويعاجلني الأخر بلكمة على قفاي.. ابتسمت رغمًا عني واحدهم يسألني معك قداحة يا أستاذ.. يا لتلك الأفلام العربية القديمة التي رسمت وعي هذا الشعب حتى بلطجيته.. اتخذت وضعًا دفاعيًا و أنا أرثي للمسكينين اللذان لم يخطر ببالهما أن ضحيتهم بطلًا للجامعة مرتان علي التوالي في قتال الأيدي العارية وصاحب فضية البحر المتوسط لنفس الفئة انزلقت أرضًا متفاديًا القبضة المتجهة نحو قذالتي وتحركت قدمي بركلة محكمة للشاب الذي طلب القداحة فسقط أرضا ممسكًا بمكمنه وهو يعوي ككلب جريح وقبض الثاني على ذراعي فدرت نصف دورة سريعة جعلته أسفل مني فالتف ذراعه بحركة دائرية حتى سمعت صوت طقة واضحة تعني أن هذا الشاب سيحتاج ثلاثة شهور من الجبس كحد أدني ليتعافى.. أمسكت بملابس الشاب الأول وهو يتقيًا فأصابني بعضًا من القيء .. فقلت باشمئزاز:  

- ماذا تريدون؟.. من ارسلكم لضربي؟!..

نظر لي في غِل وهو يقول في صوت اشبه بالعواء

- ليس هناك أحد بعيد عن قبضة شمندي..

أرخيت يدي عن ملابسه وقد توقعت هذه الاجابة فتركته يأخذ زميلة المتألم ويتوكأن على بعضهما واكملت طريقي للبنسيون.. والآف الاسئلة تعتمل في ذهني.. واظن أن اجابتها أو على الأقل توضيح هذا الموقف سيكون عند أوجيني .. كان الوقت قد تأخر ولم أجد أحد في البهو إلا عم شعبان غافيًا كما اعتدت ان أراه منذ قدمت الى هذا المكان فدخلت حجرتي وابدلت ثيابي التي كانت رائحتها لا تطاق بسبب قيء هذا المغفل.. تمددت على سريري مكررا بهدوء الصباح رباح..

على صوت حركة امام بابي بدت انها طرقة خافتة انتبهت من نومي فوجدت الساعة تشير للثالثة فجرًا انتفضت على عجل ابحث بعيني في الغرفة عما يصلح ليكون سلاحًا للدفاع عن النفس إذا كان المعتدي لديه سلاح ناري .. رأيت المزهرية الزجاجية التي بدت ممتازة للدور الذي أرسمه لها وبدون أدني صوت تحركت صوب الباب والتصقت بالحائط جواره وانتظرت فينة حتى رأيت المقبض يتحرك.. كنت أعلم ان المتسلل سيستطيع فتح الباب فأنا لم أغلق باب حجرتي بالمزلاج منذ نزلت على هذا المكان.. مددت يدي فسحبت المتسلل وانا استعد لأعاجله بضربة محكمة من المزهرية على أم رأسه.. وجدت عينان مذعورتان ميزتهما فورًا .. هذه هي الفتاة العشرينية التي كانت تجلس معنا على مائدة العشاء في الأمس.. لم أرخِ قبضتي على يديها وجررتها جرا إلي داخل الغرفة.. وجدت بيديها جهاز محمول انتزعته منها وأجلستها على واحد من الكرسيين الموجودان بالحجرة.. كانت مذعورة وطفرت دمعات من عينيها جعلت منظرها بائسًا للغاية لكن مزاجي العام لم يسمح لي بالتعاطف معها بحال من الأحوال.. محاولا خفض صوتي قدر الإمكان سألتها في جدية..

- من انت؟؟ ولماذا تتسللين إلى حجرتي..

نظرت لي متوسلة و هي ترد في سرعة..

- أستاذ حجازي أرجوك.. أرجوك.. ليس هناك داعِ للفضائح.. سأخبرك بكل شىء..

رغمًا عني ابتسمت في داخلي.. فهذا أقصر استجواب في التاريخ.. وبينما تهتز الفتاة مرتعشة.. قالت..

- أنا نجلاء نزيلة معكم هنا فى البنسيون.. أما لماذا تسللت إلي حجرتك فببساطة لأتأكد أنك في حال طيبة ..

هززت رأسي فى عدم فهم وصحت..

- ماذا تقصدين؟..

- أرجوك اخفض صوتك.. لقد علمت ان هناك من تعرض لك الليلة وخفت أن يكون قد مسك ضرر قد يؤثر على حياتك..

صحت رغمًا عني

- وما أدراكِ أنى قد تعرضت لمن يهاجمني الليلة..

أجابت فى خضوع..

- لأن واحد ممن هاجموك هو اخي.. وقد أخبرني منذ عدة ساعات ان شمندي قد وكله هو وصديق له بأن يتولوا امرك لأنك تطاولت عليه او شىء من هذا القبيل..

قلت ومازالت الدهشة تعتلي صوتي:

- إذا فقد كان ينوي هذا المغفلان قتلي..

قاطعتني بسرعة

- لا لا أظن ذلك.. كل ما أراداه فعلا هو تلقينك درسًا لتتأدب مع شمندي في المرات القادمة..

كررت عبارتها مندهشًا..

- المرات القادمة..

ردت بتنهيدة..

- أنت لا تعرف شيئًا أستاذ حجازي.. شمندي أخطبوط ويبدو أند قد وطأت ذراعًا له.. فلن يفلتك حتى تنتهي حاجته منك..

زفرت وانا ارجع رأسي للوراء..

- ما هذا الموقف الذي وضعت نفسي فيه..

ثم سألتها:

- وانت؟؟.. ما علاقتك بهذا كله؟

انحدرت على وجنتها دمعة وهي تقول..

- كما اخبرتك فأخي يعمل واحدًا من بلطجية شمندي وكل ما أردته أن اطمئن عليك..

لم اصدقها هذه المرة وصحت بها..

- لا هذا ليس كل شيء..

توسلت إلى..

- اخفض صوتك ارجوك..

عاودت السؤال بإلحاح

- لماذا تسكنين البنسيون إذا كنتي من اهل السويس وما علاقتك بهذا الشمندي..

أسقط في يديها فقالت في استسلام..

- وانا ايضا أعمل لدي شمندي..

بُهِت.. فجلست على المقعد المقابل لها وانا أحاول تحليل وفهم كلماتها..

- إذا فانت جاسوسته في البنسيون..

أومأت في استسلام.. ثم قالت

- أرجوك يا سيد حجازي انا أمراءه ضعيفة وكل ما افعله هو تنفيذ أوامر هذا الوحش الذي زج بزوجي في السجن ليقتله واحد من بلطجيته هناك وما عليّ إلا الرضا والاستسلام لأرادته...

اعتملت كلماتها في رأسي فقلت لها..

- على كل الاحوال لا أدري من هو أخوكِ ولكن الشابان حالتهما حرجة حاليا وأظن ان أحدهما مصاب بكسر في ذراعه..

نظرت لي مندهشة.. قلت ببراءة..

- لقد كنت أدافع عن نفسي..

ابتسمت رغمًا عنها وقالت..

- يبدو ان شمندي كان محقًا في أن يضعك في رأسه سيد حجازي..

قلت لها:

- تعترفين بذلك وربما اكون كسرت ذراع أخاك..

- واود لو كسرت رجله أيضًا هذا المنحرف.. هو الذي عرَّف زوجي على شمندي واقنعه بقبول قضية سقوط العقار محل شمندي مقابل الملاليم التي دفعها له وعدًا في ان يعطيه الملايين عند خروجه من السجن.. وها أنا ذا أرملة مفلسة في الخامسة والعشرين بسبب هذا العاق..

أشفقت عليها رغمًا عني.. ثم قالت متوسلة:  

- والأن ماذا تريد ان تعمل معي..

أشرت لها:  

- لا شىء هاك هاتفك المحمول.. تفضلي إلي غرفتك..

قالت باندهاش:

- بهذه البساطة..

- نعم بهذه البساطة فأظنك ضحية هذا الرجل كزوجك تمامًا ويؤسفني بحق ما حدث مع اخيك..

ردت ممتنة:  

- أشكرك يا سيد حجازي أنت رجل شهم واتمنى الا يصيبك مكروه ...

قلت بصوت خافت مبتسمًا لها وانا اقودها لباب الغرفة

- وهذا ايضا في علم الغيب طالما اسكن في هذا البنسيون ..

نظرت لى محيية ولم تخفي عني نظرات أطلت من عينيها فيها بعض الامتنان والكثير من الاعجاب.. لكن الموقف لم يكن يسمح بكلمة اخري.. أغلقت الباب خلفها بمفتاحه هذه المرة واتجهت مباشرة لسريري واستسلمت للنوم ...

فى الصباح تناولت افطاري مع الجميع ولم ألتفت ناحية نجلاء متعمدًا محاولا ألا يبدو على أي علامة باني أعرفها وبعد الإفطار طرقت أوجينى الباب وسمحت لها بالدخول فدخلت ثم قالت في لهجة بدت متجهمة ..

- محمد لا ادري كيف ابدأ الكلام معك ولكن هناك موضوع هام جدًا أريد أن أحدثك فيه..

- أنا أيضًا أوجيني اردت التحدث إليكِ..

- تفضل ما الموضوع؟ ..  

- بل قولي انتِ ما جئت من أجله أولا..

نظرت إلى الارض وأطرقت دقيقة ثم قالت..

- لقد رأيت نجلاء خارجة من غرفتك اللية الماضية وان كان هذا امر لا يعنيني شخصيًا ولكني لا أفهم .. متي حدث أي شىء بينكما.. متي؟ ؟!..

أحسست انها متأثرة للغاية.. فأجبتها بسرعة

- هل هذا هو الموضوع المهم جدًا الذي تودين ان تحدثيني فيه..

نظرت إليَّ ولمحت في عينيها أثر لدموع.. فقلت بسرعة..

- وهذا ما كنت سأسألك عنه أنا أيضًا..

نظرت إلي مندهشة وقالت:

-  ماذا تعني..

- جينا ربما أكون أعرفك منذ بضعة أيام فقط وهي فترة قصيرة جدًا.. لكني أحس ألفة غريبة في هذا المكان وارتاح لكِ.. واظن ان هناك الكثير مما يجب أن اعرفه حتى أستطيع استيعاب ماذا يجري هنا..

نظرت إلي مستفهمة فأكملت..

- نعم نجلاء كانت في غرفتي البارحة ولكن ليس من اجل ما تظنينه.. فقد قابلت عمر شمندي أمس..

شهقت شهقة خافتة وأنا استطرد

- وقابلت اثنان من رجاله ايضا على ناصية الشارع.. اظن أحدهما يرقد في المشفى حاليًا..

نظرت نحوي بدهشة وهي تقول..

- ما.. ما الذي.. كيف؟؟..

رددت بسرعة:

- في المقهى.. ويبدو ان هذا المغفل قد رأنا مصلحة الضرائب أمس..

انهارت على الكرسي وهي تقول

- أعرف ان هذا الرجل لا ييأس.. ماذا يريد منا هذا الوحش بعد كل ما أخذ؟!.. ولماذا يصر على ان لا يتركنا في حالنا!!..

ثم اجهشت بالبكاء.. لم أفهم ماذا تعني بكلماتها ولكني اقتربت منها ونزلت على ركبتي ثم ربت على كتفها فدفنت رأسها في صدري وهي تجهش بالبكاء.. خرجت الكلمات منها متشابكة لدرجة اني لم استطع أن افهمها.. ربت على كتفها وطلبت منها أن تهدأ حتى استطيع ان أتبين كلماتها.. قالت:

- انت لا تدري كم المصائب التي تأتينا من وراء هذا الرجل منذ طلاقه من لولا

هنا كان دوري لاندهش فسقط فكي السفلي دهشة وهي تستطرد..

- نعم لقد تزوجته لولا سنتين كاملتين وهي بعد مازالت في التاسعة عشرة كان ضغطه عليّ قد بلغ منتهاه ولولا الطائشة انساقت وراء ثروته الكبيرة ومعاملته معها فوافقت برغم كل تحذيراتي لها .. وبالرغم انه يحبها بشدة الا أنه هذا المغفل فشل في الاحتفاظ بها .. فقد كان يشك فيها بجنون.. ويحملها مسؤولية جمالها وأنوثتها.. وضعها في سجن بيته حرفيا فلا زيارات ولا مكالمات ولا أي شيء.. وحتى بعد ان وضعت آدم..

قاطعتها

- وهو ابو آدم أيضا؟!

- نعم هو أبوه ولله الحمد لم يرث الولد منه أي شىء سوى طبيعته التجارية ... وبشق الأنفس حصلنا منه على الطلاق.. بعدما تنازلت له لولا عن كل شيء.. وعادت لتعيش معي في البنسيون.. ومنذ ذلك الحين وهو لا يكف عن مضايقتنا بكل الطرق والوسائل فتارة يكلف بلطجيته بترهيبنا.. وتارة يؤلب علينا رجال الضرائب وغيرهم من مرتشينه الذين يغدق عليهم من ماله.. وغيرها الكثير من المصائب التي لا أستطيع أن أذكرها لك..

أغمضت عينيها متألمة.. فلم أدرِ ماذا أقول لكنى رغمًا عني قلت لها:

- لا تقلقي أوجيني.. سأساعدك لتتخلصي من هذا المأفون ولكن لي شرط عندك..

- أي شىء محمد أطلب أي شىء

- أن تصارحيني بكل شىء وأن تساعديني فى وضع خطة تساعدنا على الايقاع به..

ابتسمت ابتسامة واهنة وهي تقول

- أنت شهم وشجاع ايضاً ولكنك لا تعرف عمر شمندي.. أين كنت كل هذا الوقت؟  

وكأنها ضغطت على زر في رأسي.. فرأيت وكأني أحلم مشهدًا مشوشًا لنفسي أجلس في غرفة للنوم وبجواري أمراءه ثلاثينية بملابس داخلية بنفسجية وقد أولت إليّ ظهرها وعليه وشمًا ملونًا لفتاة شبه عارية وسط أجمة من بتلات الزهور بدا غاية في الجمال وفجأة اهتزات الجدران ثم صوت هدير عظيم ثم بوووم ولا شىء بعدها وقفت كالمشدوه فاغرا فاهي.. فنادت عليَّ اوجيني

- محمد محمد ماذا بك؟!..

- لا أدري ماذا حدث.. كأني تذكرت حادثا مر بي ولا أستطيع أن اتبين متي حدث لي هذا!! ...

ردت أوجيني

- غريب هذا الامر فعلا..

قلت مغيرًا دفة الحديث:

- دعينا من ذلك الأن.. إن نجلاء تعمل لحساب شمندي..

أفلتت اوجينى سبة:

- بنت الساقطة.. كنت اشك في أمرها تلك العاهرة..

عاجلتها لا تقسي عليها أوجيني فالمرأة حكاية مع شمندي أيضًا فقد سجن زوجها وقتله في سجنة ليتنصل منه وهي تعمل لديه مضطرة خوفًا من بطشه..

هدأت قليلا وقالت

- وانت ماذا تري..

- دعيني ارتب الأمر ونجلاء ستساعدني.. ولعل الأمور تؤول إلي الخير..

ابتسمت وهي تقول لن اقلق وانت بجواري..

ابتسمت رغمًا عني وربت علي خدها وهي تخرج من الغرفة...

 بعد الظهر وبينما أنا جالس في المطعم أتناول طعام الغداء جاءت لولا تمشي نحو طاولتي.. يالآلهة الجمال التي تحسد هذه المرأة علي جسدها الأفروديتي وملامحها الإيزيسية .. لم أستطع أن أخفي نظرة الأعجاب التي ظهرت على ملامحي.. ولكن واحدة بجمال لولا أظن أنها اعتادت على نظرات المعجبين في كل مكان وزمان.. نظرت لها وأنا جالس مستفهمًا.. فقالت في تحفظ..

- ممكن أجلس..

هززت راسي وانا اتناول طعامي بمعنى تفضلي.. جلست على الكرسي المقابل لي وهي تعقد ذراعاها تحت صدرها.. بدأت الكلام قائلة:

- أستاذ محمد أظن أني مدينة لك باعتذار..

قلت ومازال الطعام في فمي:

- اعتذار لأي سبب..

- عن الموقف المزعج الذي حدث لك أمس بسببنا.. ولكنى أظن أنك سبب أيضًا فكل هذا بسبب إصرارك على الخروج مع ماما إلي المصلحة.. وقد حذرتك قبلها لكنك لم تستمع إلي..

قلت لها مستنكرًا:

- هل تُسَمِين هذا اعتذارا..

بدأت ملامحها تتجهم فكأنها قطة عبست فازدادت فتنة.. وقالت

- أنت لا تفهم الموضوع أكبر بكثير مما تتصور..

- في الواقع انا لا أتصور شيئًا وسأكون ممتنًا لو وضحت لي حجم هذه المشكلة

 ردت بسرعة:

- أظنني اعتذرت لك وهذا يكفي.. بعد إذنك..

ورحلت.. لا لم أركز مع أسلوبها الجاف ولا طريقتها الغريبة.. ركزت مع سحرها وهي تغادر المكان كأغواء يخطر على قدمين.. حملت كوبًا من الشاي واتجهت إلي غرفتي.. جلست فى الشرفة أرتشف الشاي الدافئ ومن شرفة مجاورة رأيت نجلاء تشير لي.. قرأت على شفتيها أن لديها ما تقوله لي.. وأنها ستأتي في المساء.. فأومات لها.. وبينما أنا استند إلى جدار الشرفة تكرر المشهد الذي رأيته سابقًا.. وميزت هذه المرة مرآة موضوعة بكامل جدار الغرفة وبينما هي تتكسر مع الجدران.. رأيت ملامحي فيها وهي تتشقق والمرأة تصرخ في هلع ثم اختفي المشهد فجأة وأصابني بعض الدوار فاستندت إلى سور الشرفة ثم جلست وبينما أحاول أن استرجع ملامحي في المرآة من هذه الرؤيا السريعة تذكرت شيئًا هامًا جدا.. الملامح التي رأيتها لم تكن لي.. كانت أشبه بـــ ... ولكن هذا مستحيل.. ملامحي كانت هي ملامح عمر شمندي نفسه..

Thursday, May 25, 2023

أوجيني - رواية فى حلقات مسلسة (الحلقة الثانية)

في اليوم التالي أجريت اتصالا بصديق لي في الإسكندرية ووسط دهشته طلبت منه أن يتقدم لى بإجازة من العمل لظروف عائلية طارئة ستضطرني للسفر خارج البلاد لفترة من الوقت.. بعد تناول الأقطار قررت النزول من البنسيون لاستكشاف معالم المدينة الصغيرة وفي طريقي نحو البوابة سمعت جدالا يدور بين السيدة اوجيني ورجل يبدو من هيئته وأسلوبه في الحديث أنه تابع لجهة رسمية.. توقفت في الردهة لبرهة استمع لنقاشهما الذي بدأت وتيرته تعلو وهو يطالبها أن يقوم محاسبها القانوني بزيارة مصلحة الضرائب عاجلًا لمشاكل في ملفها الضريبي وهي تحاول أن تشرح له أنها ليس لديها محاسب من الأساس وان من قدم الملف هو ابنتها.. لم يكن لدي الرجل ذرة من التفاهم فأضررت أن اتدخل وأنا أبتسم له محييًا.. سيدة أوجيني عفوًا للتأخير وتوجهت إليه مقدمًا نفسي وأنا أبرز كارنية النقابة وبطاقة العمل الخاصة بي محمد عبد المعطي حجازي المحاسب القانوني للسيدة أوجينى .. هلا تكرمت بأعطائي فكرة عن المشكلة.. ألتفت إليّ وبدأ يشرح مشكلة الملف التي بدت بسيطة للغاية وتحتاج فقط إلى تقرير اعمال وطبقًا لملاحظاتي عن البنسيون فإن هامش ربحه بالتأكيد يقع في منطقة الأعفاء إذا ما احتسبت مصروفاته بصورة صحيحة.. شكرته على المعلومات وقلت انها ستمر عليه في مكتبه بمبني المصلحة غدًا صباحًا ومعها كل الأوراق المطلوبة فهز الرجل رأسه متفهمًا وغادر على مهل.. نظرت لي أوجينى باندهاش وهي تكاد تبكي من الفرح أن أحدًا استطاع أن يتكلم لغة هذا الرجل.. بادلت نظرتها بابتسامة صغيرة وبينما هي تشكرني طلبت منها جميع اوراق وفواتير البنسيون خلال السنة السابقة، لم أنتظر ردها وتوجهت عائدًا إلى غرفتي وأعددت طاولة عمل كيفما اتفِق فعاجلتني أوجينى بعد دقائق ومعها ملف كبير يحتوي مئات الأوراق والفواتير تركته علي الطاولة ثم خرجت.. وبعدها بربع ساعة طرقت الباب ودخلت حاملة فنجانًا من القهوة وهي تنظر لي وأنا أعمل وكأنه مختبر للكمياء وقالت لي في ود...

- أتعرف أستاذ محمد.. لم أحب الأرقام أبدًا.. لقد درست في طفولتي حتى الصف السادس وكان والدي دائمًا ما يكرر أنه ليس لي حظ فى التعليم وبعدما تغيرت الحال وجئت إلى مصر ورغم أني اعتدت فى الماضي أن أمتلك الكثير من المال إلا أني لم أكن بارعة أبدًا فى كيفية إدارته والحفاظ عليه..  ثم اتبعت كلامها بتنهيدة طويلة.. نظرت لها وللأوراق.. فانتفضت..

- آ آ عفوًا انت مشغول الآن.. سأذهب وإذا احتجت اي شىء فقط أخبرني وشكرًا لك مرة اخرى..

بادرتها قائلًا..

- كل ما أريده هو آلة حاسبة وبضعة ساعات حتى أنتهي.. 

فأومات وغادرت الغرفة لدقيقة ثم أحضرت الآلة الحاسبة وانسحبت في هدوء.. استغرقت في الأمر حتى فوجئت أن الساعة تعدت الخامسة عصرًا وداهمني أحساس الجوع لكنى كنت راضيًا عن نتيجة التقارير التي أعددتها.. خرجت لأوجيني وأخبرتها أن التقارير المالية صارت جاهزة وأن الموضوع سيكون إجراءات ورقية فقط ولن تحتاج لسداد أي مبالغ للمصلحة.. شكرتني بصدق على مجهودي.. ثم قالت إنها ستأخذ التقارير إلى المصلحة غدًا وأن كنت اود أن أرافقها فهززت رأسي موكدًا على رغبتها وأنا أذكرها أنني محاسبها الخاص من الآن فصاعدًا من وجهة نظر مأمور الضرائب علي الأقل.. طلبت مني أن اتوجه لغرفة الطعام وهي تشير إلي أن لولا قد أعدت طعام الغداء لي بصفة خاصة لأنشغالي في العمل.. جلست على المائدة ولولا تضع الطعام ثم جلست وهي تقول

- ماما أخبرتني بما صنعته اليوم مع موظف الضرائب.. 

انتظرتها أن تكمل ما تريد ان تقوله فصمتت لكنى لاحظت على وجهها إمارات الضيق.. بدأت في تناول طعامي وأنا اختلس النظر بين فينة واخري إلى وجهها المريح واقراطها الكبيرة ولم يفتني ان اتطلع إلى منحنياتها التي تعجبني عبر عباءتها الضيقة أضافت بعد فترة..

- أستاذ محمد.. لا اعرف ماذا تفعل فعلًا ولكن ماما طيبة جدًا.. ولا أريد من أي أحد أن يستغلها...!! أرجو ان تكون قد فهمت معني كلامي..

لم يبد من ملامحي المندهشة أني فهمت فعلًا.. فقلت فى سرعة..

- ماذا تقصدين ...؟؟ كل ما هنالك أنى وجدتها في موقف حرج فعرضت عليها المساعدة والمسالة كلها في جانب اختصاصي كمسؤول مالي ثم أني لم أطلب منها أي آجر.. حدجتني بنظرة صارمة – يا إلهي هذه المرأة تعرف كيف تكون عدوانية حقًا – ثم أجابت فى عنف هذه المرة..

- انت نزيل في البنسيون أستاذ محمد وكل شؤون ماما أنا التي أتولاها وأرجو أن يكون هذا مفهوم... 

لم استوعب منطقها لكنى أجبت بسرعة..

- حسنًا مفهوم.. هل أستطيع الآن أن اتناول طعامي في هدوء..

كانت أوجيني قد جاءت مستفهمة من علو صوتها ونزيل أو أثنين قد وقفوا على باب غرفة الطعام.. فقامت محتدة ثم غادرت الغرفة وأنا مازلت لا أصدق مدي عدم العرفان الذي تتمتع به هذه المرأة.. الفاتنة.. بعد ساعة تقريبًا سمعت طرقات خافتة على باب الغرفة ظننت فى البداية أنها لولا وقد جاءت لتعتذر لكني وجدت اوجينى وقفت على الباب فى مودة وهي تقول..

- مشغول...؟؟ 

أجبت سريعًا..

- بماذا؟! أنا الأنسان الوحيد الذي لا يستطيع أن يدعي انه مشغول في هذه المدينة..

قالت في خفوت..

- أعذرني على الإزعاج ولكني أحب أن احتسي الشاي في الشرفة الخاصة بغرفتك فهي تتمتع بواحدة من أفضل المطلات على القناة في المبني هل يضايقك ان تشاركني هذا الوقت..

نظرت نحو القناة ولم يفتني أن ألمح أن شرفات الغرف الشرقية كلها تطل على القناة لكني قلت فى سرعة

- بالطبع لا يضايقني.. بالعكس بعض الصحبة دواء.. 

أومأت برأسها وغابت لبرهة ثم عادت تدفع بعربة شاي تبدو عتيقة.. دخلت بها الغرفة متوجهة مباشرة إلى الشرفة.. كانت ترتدي غلالة من الدانتيل فوق ثوب ضيق من الحرير برقبة مستديرة وشعرها الذهبي منسدل على كتفيها فى عفوية مبرزا رقبة من المرمر لفتها بقلادة رفيعة من الذهب وانتعلت صندلًا ذا لون أزرق.. تمعنت بدقة في ملامحها وحضورها الأخاذ.. تبعتها وهي تعبر إلى الشرفة.. وجلست إلى المقعد الخشبي المريح المقابل لسور الشرفة واستقرت هي أمامي طرف المقعد الآخر وقد وضعت أمامنا عربة الشاي.. أخدت كوبي وأنا ارتشف الشاي فى تلذذ ولسعة من البرد في الجو قد ظهرت على شفتاها وهي تتكلم ثم بادرتني قائلة..

- أرجوك لا تأخد كلام لولا على محمل الجد..

هززت رأسي بدون أي تعبير حقيقي وهى تردف..

- لولا تعتبرني أختها ولست أمها وهي تتعامل مع كل ما يخصني بحرص شديد وعلى الرغم من أنى علمتها كل شيء إلا أنها ورثت تلك الحدة من والدها..

كنت اعرف تمامًا عما تتحدث فقد اختبرت تلك الحدة منذ أقل من ساعتين.. فأومأت موافقًا.. سحبت اوجينى سيجارة من علبة ذهبية كانت على طاولة الشاي وبدأت تنفسها في تلذذ وهي تقول..

- لا اعرف فعلا ما الذي دفعني لأن اطلب منك مشاركتي هذه الليلة.. أنت انسان لطيف.. وبالرغم من أنك غريب.. الا انى احسست بالراحة عندما جاء بك آدم إلي البنسيون وكأني أعرفك منذ زمن.. 

سرحت في كلماتها فأنا أيضًا أشعر كأني رأيتها من قبل لكن امرأة بجمالها قد يري الواحد فينا مثيلاتها على شاشات السينما او المجلات نفضت الخاطر عن رأسي وألتفت أليها وقد تمددت على طرف الكنبة واضعة قدميها أمامها فانحسر ثوبها الحريري عن أجمل ساقين رأيتهما في حياتي وقالت وهي ترجع رأسها إلى الخلف..

- كما تري فأنا اعيش هنا منذ ان كنت صغيرة ربما في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري.. وتزوجت منذ وطئت أرض مصر من والد لولا الذي لم يستقر له حال حتى فارقني.. كان جمالي مشهود به لكن مع رجل مصري غيور كوالد لولا أصبح هذا الجمال لعنة وفي النهاية تركني ولولا في الرابعة من عمرها وحتى الان لا أدرى ماذا فعلت حتى يتركني وما الذي لم يعجبه فيّ..

كان السبب واضح للغاية فامرأة بهذا الجمال هي كالألماسة النفيسة لا تستطيع ان تحتفظ بها في أدراج مكتبك لكني تدخلت صادقًا..

- ماذا تقولين مدام أوجينى.. انت مثال للجمال والرقة وصحبتك ممتعة للغاية..

تنهدت وهي تقول..

-  كان رجلًا كريمًا وبرغم انفصالنا إلا أنه لم يبخل عليّ ولا على ابنته بالمال أبدًا وبالمناسبة نادني أوجينى فقط أو “جينا” إن أحببت.. أحب ألا يجعلني هذا اللقب أبدو كبيرة في السن.. أرجو الا يضايقك هذا..

 - كلا بالعكس لا يضايقني ابدًا 

وقفت مستندًا على السور متشمما رائحة دخان تبغها الذي امتزج بالنعناع وطلبت منها ان تحكى لي عن وطنها.. فسرحت عينيها قليلا واجترت نفسًا طويلا من سيجارتها ثم قالت انها من اهل قرية على الحدود بين تركيا وسوريا جلَّ أهلها من الأرمن وانها كانت من بين مجموعة من الفتيات التي يعملن في معصرة للعنب الذى هو محصول القرية الوحيد وكيف أنهن كن جميلات بنضرة مراهقتهن وصخبهن وقد تعرفت شابًا يعمل معهم بالمعصرة وأحبته كان حب مراهقة بكل أحاسيسه الجميلة لكن المضايقات من أهلها كانت قد بدأت لتتركه فجمالها واعد برجل ثري يحقق لها الأمان المادي وهذا الشاب رقيق الحال لكنها تمسكت به رغم فقره وبعد قليل لم يكن هناك حل وسط بينها وبين أهلها ففرت معه الى لبنان ومنها ساقتها الأقدار الى السويس بعد رحلة شاقة مع قافلة عسكرية أنقذتها من أيدي بعض لصوص الصحراء بعدما اعتدوا عليها وقتلوا الشاب الذى حاولت جاهدة أن تتذكر اسمه ولكن بقعة ما في عقلها كانت ترفض أن تتذكر تلك الحادثة الاليمة .. وانحدرت دمعة من عينها وقد بدأت بوادر البكاء تغزو الجو فاقتربت منها مربتا على كتفها فأجلستني بجوارها.. كان جسدها دافئا وقد جعلتنا لسعة البرد نقترب من بعضنا البعض وعلى ضوء مصباح خافت ينير الشارع المقابل للشرفة تأملت في ملامحها وتقاسيمها الجميلة.. كان لسعة من البرد المحببة قد صارت بردًا أحسسته في أطراف قدمي ومذاق الشاي الدافئ يبعث على الطمأنينة تحركت في خفة وأحضرت الغطاء من فوق السرير ووضعته فوق رجليها اللتان ضمتهما إلى صدرها وهي تميل لتلقي برأسها على كتفي.. تدثرنا بالغطاء الثقيل وهي وتلتصق بي وبدون أن أدري راحت عيناي في النوم..

في الصباح أفقت على صوتها وهي تضع الافطار على الطاولة الصغيرة بالغرفة وقالت في مودة..

-  صباح الخير أستاذ محمد.. كما اتفقنا بالأمس فأنا ذاهبة الى مصلحة الضرائب وأنت سترافقني..

نظرت لها في دهشة.. متى نمت؟؟! ومن وضعني على سريري؟؟! وكيف سقطت فريسة للنوم حتى لم أحس بها وهي تقودني للسرير او وهي تدخل بالإفطار؟! أومأت لها أني بالتأكيد سأذهب معها.. جلست على المقعد المجاور للسرير فقمت من سريري متجهًا للحمام لم يبدو عليها أي تغير أو تحفظ في تصرفاتها وكأننا أسرة نعيش سوية منذ زمن وعندما خرجت من الحمام كانت قد غادرت الغرفة فارتديت ملابسي وخرجت الي الصالة الخارجية.. كان هناك نزيل جديد يسجل بياناته وقد حلت لولا محل أوجينى في الاستقبال حييتها بصباح الخير وأنا أمر من أمامها.. لم انظر فى عينيها وانا لا اتخيل أن تكون أوجينى قد اخبرتها بأمر جلستنا البارحة.. عند نزولنا أمام المصلحة تأبطت أوجينى ذراعي ودخلت معها الى الموظف المسؤول.. وبينما أعرض عليه الملفات جلست صامتة تماما وكأنها هي مرافقتي وليس العكس كان الموظف يستمع لي وهو غارق في ملامح أوجيني الرائقة.. وبعدما أنهيت الموضوع معه على الوجه الأكمل تسلم منا كل الأوراق وطلب منا مراجعته بعد انتهاء فترة تقديم الإقرارات وقد بدا له أن يستبقينا فقط لينعم برؤية هذا الملاك الجالس أمامي..

خرجنا من المصلحة فابتدرتنى قائلة..

- اظنني مدينة لك بغداء

فأجبت مستفهمًا..

- انت لستِ مدينة لي بأي شيء ولكن ألا تقصدين الغداء الذي تصنعه لولا؟

ردت بسرعة..

- بلي.. أنا مدينة لك بالكثير..

ومالت نحوي بجسدها فظننتها ستقبلني في الشارع.. فأخذت ذراعي وتأبطتها واقتربت مني فبعث قربها دفقات من الدفء في اوصالي.. قالت ونحن نستوقف سيارة التاكسي..

- غدائك هذه المرة ستصنعه لك من علمت لولا..

عدنا للبنسيون وهى تثرثر عن النزلاء ومواقفهم الغريبة وقد راقت لي صحبتها الغير متكلفة وعند دخولنا شكرتني بصوت مرتفع وكأنها تقصد أن تسمع لولا حوارنا فتوجهت الي غرفتي واستلقيت على سريري غافيًا حتى ميعاد الغداء.

Wednesday, May 24, 2023

أوجيني - رواية فى حلقات مسلسة (الحلقة الأولى)

بينما تمر المشاهد من نافذة القطار كشريط سينما رديء الصنع من حقبة بعيدة، تدفقت الصور في عقلي بلا توقف. ما الذي أوصلني إلى هنا؟ وكيف ركبت هذا القطار؟ أحاول ان أستدعي مشهد ما قبل ركوب القطار، ولا أستطيع. ماذا حدث؟ وهل فعلًا فقدت ذاكرتي؟ أم انها واحدة من حيل العقل الكثيرة التي يفرض نفسه فيها عليَّ نفسه ويفعل ما يحلو له في النهاية. حاولت أن أسترخي ولكن الكرسي الخشبي آبي ذاك الاسترخاء وفرض على ظهري خشونته وصلابته.. وبينما اتطلع من النافذة.. سمعت الصوت المميز لمحصل التذاكر ينبه الجالسين

- السويس السويس.. المحطة القادمة السويس

سرحت في سبب تكراره لأسم المدينة لكنى قلبت شفتي في لامبالاة والتفت ناحية شريط السينما الرديء أتابع ما كنت أفعله... فأقترب مني وهو يوجه كلامه لي:

-  يا أستاذ السويس المحطة القادمة..

نظرت له في عدم فهم.. فكرر

-  تذكرتك يا أستاذ.. أخرها السويس ...

ماذا؟! السويس أنا لا أعرف حتى أين تقع السويس على الخريطة ولماذا أحجز تذكرة إلى السويس من الأساس؟ وأنا ليس لي علاقة بأي أنسان في السويس.. ما هذا العبث.. وها أنا مازلت لا أذكر ما الذي أتي بي على متن هذا القطار.. لم أعقب وحملت حقيبة الكتف الصغيرة التي فاجئني رقودها بجواري وهي تحمل علامة بها أسمي.. وضعتها على كتفي ونزلت من القطار.. مطالعًا اللوحة الحجرية الكبيرة القديمة التي كتب عليها بخط الرقعة على ما أظن “السويس” .. توجهت إلي خارج المحطة متطلعًا لعلي أجد أحد المقاهي لأجلس على كرسي ثابت يزيل عنى شعور دوار الاهتزاز الذي يسببه لي القطار، فاجأني انه لا توجد أي مقاهي في الشارع المقابل للمحطة، أصابني العجب وانا أسمع هدير صوت الناس واضحًا لكني لا أري أي منهم.. محطة قطار مركزية بدون مقاهي!! أين يذهب المسافرون المنتظرون إذن؟؟ لم تطل دهشتي كثيرًا فقد دلني أحد العابرين على شارع ضيق.. ما إن عبرته إلا وكأنني دخلت رأسًا إلي حرم تلك المدينة.. ما كل هذا الازدحام؟!.. يبدو وكأنه سوق المحطة أو ما شابه.. لكنه يختفي خلف صف من المباني تقابل مبني محطة القطار تماما. حططت رحالي على اول كرسي قابلني، جاءني النادل وبلهجة أعجبتني كثيرًا صاح..

- تشرب أيه يا أستاذ؟

طلبت شايًا بملعقة سكر واحدة وجلست اتفحص وجوه العابرين والعابرات.. وبينما أرتشف الشاي قليل السكر قلت في نفسي “جديًا الآن.. ماذا أفعل هنا؟ ولماذا حجزت تلك التذكرة إلى السويس تحديدًا..” وكما كنت متأكد من أسئلتي.. كنت متأكدًا أيضًا أنه لا إجابات لدي.. على الأقل فى الوقت الحاضر. أشرت للنادل الشاب فتقدم نحوي مبتسمًا.. نقدته الحساب وأنا أسأله عن نزل أو فندق قريب للإقامة المؤقتة وبينما أحدثه.. كان هناك ولد صغير يبدو فى التاسعة او العاشرة من عمره يمر على طاولات المقهى.. كأنه يقود دراجة مسرعة بينما يصدر أصواتًا بفمه تدل على سرعته وخطورة القيادة.. وكأنه كان يسمع حواري مع النادل فتقدم في جراءة أدهشتني قائلًا..

- أتبحث عن بنسيون يا أستاذ؟ طلبك عندي.. هيا هيا.. أركب ورايا..

أستغرق النادل في الضحك وشاركته أنا أيضًا وأنا مازلت لا أفهم ماذا يعنى هذا الفتى الصغير فأوضح النادل ...

- أنه آدم أصغير قومسيونجي في السوق..

فهمت فورًا قصد النادل وتوجهت إلي آدم باسمًا..

- وكم ستأخذ أجرة التوصيل يا أستاذ آدم..

أبتسم ضاحكًا ببراءة قائلًا

- لا لا هذه التوصيلة على حسابي يا بك..

ابتسمت من لباقة الفتي الصغير وتبعته في طرقات المدينة الصغيرة حتى وصلنا إلي مبني من طابقين يبدو عليه القدم رغم نظافته والاعتناء بواجهته البيضاء التي يربض أمامها تمثالان من الحجز مطليان بنفس اللون.. دخل آدم وتبعته.. وجدت سيدة تبدو من ملامح وجهها أنها في منتصف الأربعينيات وان كانت تلك الملامح تدل وبقوة على انها كانت آية للجمال طيلة حياتها كما أن ملابسها كانت مهندمة ومتناسقة الألوان تتماشى مع ألوان الجدران والأثاث والمبني ككل فكلها تميل إلى اللونين اللبني والأبيض.. عندما رأتني وقفت وهي تحييني.. وحين نطقت بلغت بي الدهشة مبلغها.. فقد كانت تنطق العربية بلهجة يونانية أو ما شابه.. كتلك اللهجة التي استخدمها ممثلو الأفلام في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي “ويبدو أنها لاحظت دهشتي فابتسمت كأنها معتادة على تلك النظرة المندهشة حين تتكلم وقالت في بساطة..

- أنا أوجيني أرمينية ولكني اجيد العربية.. 

فابتسمت لها وهي تقوم بترتيب آمر الغرفة التي سأقطنها فسجلت أسمي وبياناتي من بطاقتي الشخصية كما أدهشني سعر الغرفة المنخفض وكدت أصرح بذلك إلا أني فضلت الكتمان حتى لا تزيد السعر.. فأضافت لتزيد دهشتي..

- إذا أردت أن يشمل السعر الفطور والعشاء فيمكنك أضافة عشرة جنيهات اخري..

لم أتمالك نفسي هذه المرة فصحت رغمًا عنى

- فقط...!! 

أومأت برأسها في بساطة وقالت..

- إذا أردت الغداء أيضًا قد يكلفك ذلك ثماني جنيهات..

احتسبت تكلفة اليوم والذهول يتملكني. مكان بهذه النظافة وتكلفته فقط خمس وثلاثون جنيها شاملا الطعام لابد أنني أحلم. سألتني السيدة في اهتمام..

- وكم ستبقى ليدينا استاذ حجازي؟

صدمني هذا السؤال فعادت أفكاري تنهال بسرعة البرق على رأسي “لماذا لم أسأل نفسي هذا السؤال ولماذا لم أحجز تذكرة عودة فورًا إلى الإسكندرية. وكم يا تري سأبقي في هذه المدينة الصغيرة” وبين تساؤلاتي رددت السيدة..

- حسنًا.. هل نسجل أسبوعًا؟

أومأت لها أن نعم ونقدتها الأجرة مقدمًا رغم أنها لم تطلبها وتوجهت إلي الغرفة التي كانت لوحة فنية بستائرها البيضاء وحوائطها اللبنية وكأنها صورة للسيدة اوجينى على هيئة غرفة و أعجبتني إطارات نوافذها المزهرة بألوان تشع بهجة والشرفة عبارة عن مطل به كرسي وكنبة من الخيزران ولم يكن حال السرير بأقل من حل الغرفة فقد كان وثيرًا حتى تمنيت عندما استلقيت عليه ان أقضي يومي في الغرفة الرحبة نائما عليه.. كان هناك منضدة صغيرة تصلح كمكتب وطاولة طعام وبجوارها كرسي استقبال بذراعين مرتفعان وأمام الحمام خف من القماش وعلى الجدار لوحة زيتية لقطة برتقالية اللون تلهو بكرة من الخيط الملون.. بمجرد أن أغلقت الباب خلعت ملابسي وتوجهت للحمام.. تحممت وارتديت ملابس للنوم وارتميت على السرير وغفوت..

عندما استيقظت كانت الشمس قد غربت ولاحظت من شرفتي انني أري القناة بوضوح وعندما شرَّعت نافذتها قليلًا هبت منها رائحة عليلة ملئت منها صدري وأنا أقول في نفسي “يبدو أنى سأحب هذه المدينة”.. بعد فترة قصيرة من الوقت قررت النزول إلى الشارع لأتعرف على المكان وأشتري بعض الملابس لأنني لم أجد في حقيبتي التي حملتها معي إلا أقل القليل من الملابس.. ارتديت نفس ملابس الصباح وخرجت فوجدت السيدة أوجيني جالسة في نفس مكانها تصنع خطوطا بخيوط في يديها ألقيت عليها التحية..

- مساء الخير مدام....

ردت في سرعة

- أوجينى نادني اوجيني.. لا داعي للكلفة

فأعدت التحية مجربًا أسمها الفاخر بين شفتي

- مساء الخير مدام أوجينى

ضحكت في خفوت وهى تعيد نطق أسمها بطريقة عرفت عندها انني لا أستطيع ان أقلدها وقالت

- أوجيني فقط يا عزيزي

فقلت انني سأخرج لأشتري بعض الأغراض فسألتني باهتمام..

- ملابس...؟!

فأشرت بالإيجاب وانا أتساءل كيف عرفت فأردفت

- رأيت حقيبتك وهي صغيرة جدًا لشخص سيقضي اسبوعًا

فأعجبتني فراستها.. ثم نادت بصوت رقيق للغاية

- آدم.. يا ولد يا آدم..” 

على دراجته البخارية الخيالية انطلق آدم إلي الردهة وهو يرد متسائلًا..

- نعم نعم.. جينا..

فابتسمت له وأشارت

- خذ الأستاذ حجازي إلي السوق ليشتري ملابس واختار التجار الجيدين ولا تطلب منه أن يشتري لك المثلجات

هنا كان دوري لأبتسم وقلت..

- لا بأس فهذا الولد الشجاع يستحق المكافأة” 

أضافت مؤكده

- عودا قبل العاشرة حتى تلحقا العشاء.. 

انطلقنا إلى السوق وبالفعل وجهني آدم إلى متجر ممتاز اشتريت منه جميع الأغراض التي كنت أحتاج إليها في صفقة جيدة جدًا ولم يدهشني أن أراه ينقد أدم جنيهين عمولة الزبون الجيد. وقلت لآدم

- بقي لك عندي المثلجات التي وعدتك بها..

وخرجنا إلي الشارع التجاري فاشترينا المثلجات وفي طريق عودتنا إلي البنسيون انطلق آدم يشير إلي المحلات التجارية ويعرفني بأسماء أصحابها وصفاتهم وكثيرًا ما انتابني الضحك وهو يشير إلي أمور لاحظها ببديهته العالية على الأشخاص كهذا الذي يحب الطعام برغم أن بطنه منتفخ كالفيل والآخر الذي ينام في المحل ويوقظه الزبائن وهذا الذي قد يبيع لسيدة جميلة البضاعة مجانًا.. مدهش هو أمر هؤلاء الأطفال دائمًا ما نظن انهم غير مؤهلين للفهم والإدراك في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك وهذا الصغير أكبر دليل على هذا المنطق فها هو يلاحظ بيئته ويفهمها بفطرته السليمة بل ويتفاعل معها بما يناسبها.. كانت صحبة آدم ممتعة مما جعل الوقت يمر سريعًا حتى وصلنا للبنسيون..

بعدما دخلت الغرفة بدقائق سمعت طرقًا خفيفًا فتحت الباب فرأيت السيدة اوجيني على الباب تسألني

- هل تفضل أن تتناول العشاء مع الجميع في حجرة الطعام ام نحضره لك في غرفتك؟

تبعتها للخارج معلنًا رغبتي عن تناول الطعام مع الجميع وما كدنا ندخل غرفة الطعام حتى تسمرت على الباب فقد طالعتني واحدة من ملائكة الجنة بشعر أسود فاحم مضفر حتي نهايته واهداب طويلة وبشرة خمرية مشربة بالحمرة وجسد ممشوق تبدو تفاصيله الفائرة من ملابسها المحكمة نظرت لي في فضول فقالت اوجينى بلهجتها المميزة..

- أوه نعم يا عزيزتي هذا النزيل الجديد مستر مخمد.. 

ابتسمت لدي سماعها تنطق أسمي بحرف الخاء بدلًا من الحاء وقد غلبتها لكنتها الغربية على الرغم من أني أحببت هذه الطريقة في نطق إسمي وأظنها لن تكون مملة أبدًا أشارت الفتاة برأسها بمعنى تشرفنا وقالت في صوت لا يقل سحرًا عن سحر مظهرها..

- أرجو ان يعجبه طعامنا..

هنا تدخل نزيل آخر..

- ماذا تقولين يا “لولا” أن طعامك هو السبب الوحيد لبقائي عندكم في البنسيون..

قهقه باقي النزلاء وقد ميزت فيهم ثمانية رجال مختلفي المظهر وأن كان ثلاثة منهم يبدون أجانب لكنهم كانوا يتكلمون العربية مع الآخرين وثلاثة سيدات اثنتان منهما في العقد الثالث او الرابع تقريبًا والثالثة تبدو في اوائل العشرينيات على أكثر تقدير.. تبسمت في حرج.. ثم توجهت لمقعد على المائدة الكبيرة التي تتوسط الحجرة، جلست ورأيت آدم يتحرك في خفة وهو ينقل الأطباق من أمام لولا إلي الطاولة بخفته المعهودة وقد بهرني شكل الطعام المرسوم كلوحة.. ولولا أنى أعرف جيدًا اننا في بنسيون متواضع في السويس لظننت أن الطاهي شيف في أحد فنادق الخمس نجوم.. وقلت في قرارة نفسي “ها هي العين اكلت وشبعت اتمني ان يكون للبطن نفس الرأي” وبدأت في تناول الطعام الذي هالني حسن طعمه ورائحته الزكية.. فتوجهت عيناي بالشكر إلى أفروديت الخمرية الرابضة على رأس المائدة متطلعة للعيون وكأنها تطهو لأول مرة في حياتها.. ابتسمت لي في امتنان وتوجهت إلي أوجيني قائلة..

- سأتوجه لغرفتي ماما.. هل تريدين شيئًا قبل ان أذهب؟

هنا سقطت الملعقة من يدي رغمًا عني فتوجهت انظار الحاضرين إلي فتصنعت التقاط الملعقة وانا مازلت ألوك دهشتي بين جنبات عقلي.. كيف يعقل ان تكون تلك الشرقية الخالصة خمرية الملامح ذات الثلاثين ربيعًا على أقل تقدير أبنة للسيدة أوجينى الأجنبية تمامًا والأربعينية على أقصي تقدير.. وبينما أطلت تلك الدهشة من ملامحي كان الجميع يتناولون طعامهم في سكينة فاصطنعت السكينة انا أيضًا و إن خالجتني رغبة لأن أعرف كل شيء عن هذا المكان المميز الذي ساقتنى الأقدار إليه..