Wednesday, May 24, 2023

أوجيني - رواية فى حلقات مسلسة (الحلقة الأولى)

بينما تمر المشاهد من نافذة القطار كشريط سينما رديء الصنع من حقبة بعيدة، تدفقت الصور في عقلي بلا توقف. ما الذي أوصلني إلى هنا؟ وكيف ركبت هذا القطار؟ أحاول ان أستدعي مشهد ما قبل ركوب القطار، ولا أستطيع. ماذا حدث؟ وهل فعلًا فقدت ذاكرتي؟ أم انها واحدة من حيل العقل الكثيرة التي يفرض نفسه فيها عليَّ نفسه ويفعل ما يحلو له في النهاية. حاولت أن أسترخي ولكن الكرسي الخشبي آبي ذاك الاسترخاء وفرض على ظهري خشونته وصلابته.. وبينما اتطلع من النافذة.. سمعت الصوت المميز لمحصل التذاكر ينبه الجالسين

- السويس السويس.. المحطة القادمة السويس

سرحت في سبب تكراره لأسم المدينة لكنى قلبت شفتي في لامبالاة والتفت ناحية شريط السينما الرديء أتابع ما كنت أفعله... فأقترب مني وهو يوجه كلامه لي:

-  يا أستاذ السويس المحطة القادمة..

نظرت له في عدم فهم.. فكرر

-  تذكرتك يا أستاذ.. أخرها السويس ...

ماذا؟! السويس أنا لا أعرف حتى أين تقع السويس على الخريطة ولماذا أحجز تذكرة إلى السويس من الأساس؟ وأنا ليس لي علاقة بأي أنسان في السويس.. ما هذا العبث.. وها أنا مازلت لا أذكر ما الذي أتي بي على متن هذا القطار.. لم أعقب وحملت حقيبة الكتف الصغيرة التي فاجئني رقودها بجواري وهي تحمل علامة بها أسمي.. وضعتها على كتفي ونزلت من القطار.. مطالعًا اللوحة الحجرية الكبيرة القديمة التي كتب عليها بخط الرقعة على ما أظن “السويس” .. توجهت إلي خارج المحطة متطلعًا لعلي أجد أحد المقاهي لأجلس على كرسي ثابت يزيل عنى شعور دوار الاهتزاز الذي يسببه لي القطار، فاجأني انه لا توجد أي مقاهي في الشارع المقابل للمحطة، أصابني العجب وانا أسمع هدير صوت الناس واضحًا لكني لا أري أي منهم.. محطة قطار مركزية بدون مقاهي!! أين يذهب المسافرون المنتظرون إذن؟؟ لم تطل دهشتي كثيرًا فقد دلني أحد العابرين على شارع ضيق.. ما إن عبرته إلا وكأنني دخلت رأسًا إلي حرم تلك المدينة.. ما كل هذا الازدحام؟!.. يبدو وكأنه سوق المحطة أو ما شابه.. لكنه يختفي خلف صف من المباني تقابل مبني محطة القطار تماما. حططت رحالي على اول كرسي قابلني، جاءني النادل وبلهجة أعجبتني كثيرًا صاح..

- تشرب أيه يا أستاذ؟

طلبت شايًا بملعقة سكر واحدة وجلست اتفحص وجوه العابرين والعابرات.. وبينما أرتشف الشاي قليل السكر قلت في نفسي “جديًا الآن.. ماذا أفعل هنا؟ ولماذا حجزت تلك التذكرة إلى السويس تحديدًا..” وكما كنت متأكد من أسئلتي.. كنت متأكدًا أيضًا أنه لا إجابات لدي.. على الأقل فى الوقت الحاضر. أشرت للنادل الشاب فتقدم نحوي مبتسمًا.. نقدته الحساب وأنا أسأله عن نزل أو فندق قريب للإقامة المؤقتة وبينما أحدثه.. كان هناك ولد صغير يبدو فى التاسعة او العاشرة من عمره يمر على طاولات المقهى.. كأنه يقود دراجة مسرعة بينما يصدر أصواتًا بفمه تدل على سرعته وخطورة القيادة.. وكأنه كان يسمع حواري مع النادل فتقدم في جراءة أدهشتني قائلًا..

- أتبحث عن بنسيون يا أستاذ؟ طلبك عندي.. هيا هيا.. أركب ورايا..

أستغرق النادل في الضحك وشاركته أنا أيضًا وأنا مازلت لا أفهم ماذا يعنى هذا الفتى الصغير فأوضح النادل ...

- أنه آدم أصغير قومسيونجي في السوق..

فهمت فورًا قصد النادل وتوجهت إلي آدم باسمًا..

- وكم ستأخذ أجرة التوصيل يا أستاذ آدم..

أبتسم ضاحكًا ببراءة قائلًا

- لا لا هذه التوصيلة على حسابي يا بك..

ابتسمت من لباقة الفتي الصغير وتبعته في طرقات المدينة الصغيرة حتى وصلنا إلي مبني من طابقين يبدو عليه القدم رغم نظافته والاعتناء بواجهته البيضاء التي يربض أمامها تمثالان من الحجز مطليان بنفس اللون.. دخل آدم وتبعته.. وجدت سيدة تبدو من ملامح وجهها أنها في منتصف الأربعينيات وان كانت تلك الملامح تدل وبقوة على انها كانت آية للجمال طيلة حياتها كما أن ملابسها كانت مهندمة ومتناسقة الألوان تتماشى مع ألوان الجدران والأثاث والمبني ككل فكلها تميل إلى اللونين اللبني والأبيض.. عندما رأتني وقفت وهي تحييني.. وحين نطقت بلغت بي الدهشة مبلغها.. فقد كانت تنطق العربية بلهجة يونانية أو ما شابه.. كتلك اللهجة التي استخدمها ممثلو الأفلام في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي “ويبدو أنها لاحظت دهشتي فابتسمت كأنها معتادة على تلك النظرة المندهشة حين تتكلم وقالت في بساطة..

- أنا أوجيني أرمينية ولكني اجيد العربية.. 

فابتسمت لها وهي تقوم بترتيب آمر الغرفة التي سأقطنها فسجلت أسمي وبياناتي من بطاقتي الشخصية كما أدهشني سعر الغرفة المنخفض وكدت أصرح بذلك إلا أني فضلت الكتمان حتى لا تزيد السعر.. فأضافت لتزيد دهشتي..

- إذا أردت أن يشمل السعر الفطور والعشاء فيمكنك أضافة عشرة جنيهات اخري..

لم أتمالك نفسي هذه المرة فصحت رغمًا عنى

- فقط...!! 

أومأت برأسها في بساطة وقالت..

- إذا أردت الغداء أيضًا قد يكلفك ذلك ثماني جنيهات..

احتسبت تكلفة اليوم والذهول يتملكني. مكان بهذه النظافة وتكلفته فقط خمس وثلاثون جنيها شاملا الطعام لابد أنني أحلم. سألتني السيدة في اهتمام..

- وكم ستبقى ليدينا استاذ حجازي؟

صدمني هذا السؤال فعادت أفكاري تنهال بسرعة البرق على رأسي “لماذا لم أسأل نفسي هذا السؤال ولماذا لم أحجز تذكرة عودة فورًا إلى الإسكندرية. وكم يا تري سأبقي في هذه المدينة الصغيرة” وبين تساؤلاتي رددت السيدة..

- حسنًا.. هل نسجل أسبوعًا؟

أومأت لها أن نعم ونقدتها الأجرة مقدمًا رغم أنها لم تطلبها وتوجهت إلي الغرفة التي كانت لوحة فنية بستائرها البيضاء وحوائطها اللبنية وكأنها صورة للسيدة اوجينى على هيئة غرفة و أعجبتني إطارات نوافذها المزهرة بألوان تشع بهجة والشرفة عبارة عن مطل به كرسي وكنبة من الخيزران ولم يكن حال السرير بأقل من حل الغرفة فقد كان وثيرًا حتى تمنيت عندما استلقيت عليه ان أقضي يومي في الغرفة الرحبة نائما عليه.. كان هناك منضدة صغيرة تصلح كمكتب وطاولة طعام وبجوارها كرسي استقبال بذراعين مرتفعان وأمام الحمام خف من القماش وعلى الجدار لوحة زيتية لقطة برتقالية اللون تلهو بكرة من الخيط الملون.. بمجرد أن أغلقت الباب خلعت ملابسي وتوجهت للحمام.. تحممت وارتديت ملابس للنوم وارتميت على السرير وغفوت..

عندما استيقظت كانت الشمس قد غربت ولاحظت من شرفتي انني أري القناة بوضوح وعندما شرَّعت نافذتها قليلًا هبت منها رائحة عليلة ملئت منها صدري وأنا أقول في نفسي “يبدو أنى سأحب هذه المدينة”.. بعد فترة قصيرة من الوقت قررت النزول إلى الشارع لأتعرف على المكان وأشتري بعض الملابس لأنني لم أجد في حقيبتي التي حملتها معي إلا أقل القليل من الملابس.. ارتديت نفس ملابس الصباح وخرجت فوجدت السيدة أوجيني جالسة في نفس مكانها تصنع خطوطا بخيوط في يديها ألقيت عليها التحية..

- مساء الخير مدام....

ردت في سرعة

- أوجينى نادني اوجيني.. لا داعي للكلفة

فأعدت التحية مجربًا أسمها الفاخر بين شفتي

- مساء الخير مدام أوجينى

ضحكت في خفوت وهى تعيد نطق أسمها بطريقة عرفت عندها انني لا أستطيع ان أقلدها وقالت

- أوجيني فقط يا عزيزي

فقلت انني سأخرج لأشتري بعض الأغراض فسألتني باهتمام..

- ملابس...؟!

فأشرت بالإيجاب وانا أتساءل كيف عرفت فأردفت

- رأيت حقيبتك وهي صغيرة جدًا لشخص سيقضي اسبوعًا

فأعجبتني فراستها.. ثم نادت بصوت رقيق للغاية

- آدم.. يا ولد يا آدم..” 

على دراجته البخارية الخيالية انطلق آدم إلي الردهة وهو يرد متسائلًا..

- نعم نعم.. جينا..

فابتسمت له وأشارت

- خذ الأستاذ حجازي إلي السوق ليشتري ملابس واختار التجار الجيدين ولا تطلب منه أن يشتري لك المثلجات

هنا كان دوري لأبتسم وقلت..

- لا بأس فهذا الولد الشجاع يستحق المكافأة” 

أضافت مؤكده

- عودا قبل العاشرة حتى تلحقا العشاء.. 

انطلقنا إلى السوق وبالفعل وجهني آدم إلى متجر ممتاز اشتريت منه جميع الأغراض التي كنت أحتاج إليها في صفقة جيدة جدًا ولم يدهشني أن أراه ينقد أدم جنيهين عمولة الزبون الجيد. وقلت لآدم

- بقي لك عندي المثلجات التي وعدتك بها..

وخرجنا إلي الشارع التجاري فاشترينا المثلجات وفي طريق عودتنا إلي البنسيون انطلق آدم يشير إلي المحلات التجارية ويعرفني بأسماء أصحابها وصفاتهم وكثيرًا ما انتابني الضحك وهو يشير إلي أمور لاحظها ببديهته العالية على الأشخاص كهذا الذي يحب الطعام برغم أن بطنه منتفخ كالفيل والآخر الذي ينام في المحل ويوقظه الزبائن وهذا الذي قد يبيع لسيدة جميلة البضاعة مجانًا.. مدهش هو أمر هؤلاء الأطفال دائمًا ما نظن انهم غير مؤهلين للفهم والإدراك في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك وهذا الصغير أكبر دليل على هذا المنطق فها هو يلاحظ بيئته ويفهمها بفطرته السليمة بل ويتفاعل معها بما يناسبها.. كانت صحبة آدم ممتعة مما جعل الوقت يمر سريعًا حتى وصلنا للبنسيون..

بعدما دخلت الغرفة بدقائق سمعت طرقًا خفيفًا فتحت الباب فرأيت السيدة اوجيني على الباب تسألني

- هل تفضل أن تتناول العشاء مع الجميع في حجرة الطعام ام نحضره لك في غرفتك؟

تبعتها للخارج معلنًا رغبتي عن تناول الطعام مع الجميع وما كدنا ندخل غرفة الطعام حتى تسمرت على الباب فقد طالعتني واحدة من ملائكة الجنة بشعر أسود فاحم مضفر حتي نهايته واهداب طويلة وبشرة خمرية مشربة بالحمرة وجسد ممشوق تبدو تفاصيله الفائرة من ملابسها المحكمة نظرت لي في فضول فقالت اوجينى بلهجتها المميزة..

- أوه نعم يا عزيزتي هذا النزيل الجديد مستر مخمد.. 

ابتسمت لدي سماعها تنطق أسمي بحرف الخاء بدلًا من الحاء وقد غلبتها لكنتها الغربية على الرغم من أني أحببت هذه الطريقة في نطق إسمي وأظنها لن تكون مملة أبدًا أشارت الفتاة برأسها بمعنى تشرفنا وقالت في صوت لا يقل سحرًا عن سحر مظهرها..

- أرجو ان يعجبه طعامنا..

هنا تدخل نزيل آخر..

- ماذا تقولين يا “لولا” أن طعامك هو السبب الوحيد لبقائي عندكم في البنسيون..

قهقه باقي النزلاء وقد ميزت فيهم ثمانية رجال مختلفي المظهر وأن كان ثلاثة منهم يبدون أجانب لكنهم كانوا يتكلمون العربية مع الآخرين وثلاثة سيدات اثنتان منهما في العقد الثالث او الرابع تقريبًا والثالثة تبدو في اوائل العشرينيات على أكثر تقدير.. تبسمت في حرج.. ثم توجهت لمقعد على المائدة الكبيرة التي تتوسط الحجرة، جلست ورأيت آدم يتحرك في خفة وهو ينقل الأطباق من أمام لولا إلي الطاولة بخفته المعهودة وقد بهرني شكل الطعام المرسوم كلوحة.. ولولا أنى أعرف جيدًا اننا في بنسيون متواضع في السويس لظننت أن الطاهي شيف في أحد فنادق الخمس نجوم.. وقلت في قرارة نفسي “ها هي العين اكلت وشبعت اتمني ان يكون للبطن نفس الرأي” وبدأت في تناول الطعام الذي هالني حسن طعمه ورائحته الزكية.. فتوجهت عيناي بالشكر إلى أفروديت الخمرية الرابضة على رأس المائدة متطلعة للعيون وكأنها تطهو لأول مرة في حياتها.. ابتسمت لي في امتنان وتوجهت إلي أوجيني قائلة..

- سأتوجه لغرفتي ماما.. هل تريدين شيئًا قبل ان أذهب؟

هنا سقطت الملعقة من يدي رغمًا عني فتوجهت انظار الحاضرين إلي فتصنعت التقاط الملعقة وانا مازلت ألوك دهشتي بين جنبات عقلي.. كيف يعقل ان تكون تلك الشرقية الخالصة خمرية الملامح ذات الثلاثين ربيعًا على أقل تقدير أبنة للسيدة أوجينى الأجنبية تمامًا والأربعينية على أقصي تقدير.. وبينما أطلت تلك الدهشة من ملامحي كان الجميع يتناولون طعامهم في سكينة فاصطنعت السكينة انا أيضًا و إن خالجتني رغبة لأن أعرف كل شيء عن هذا المكان المميز الذي ساقتنى الأقدار إليه..

 

No comments: