Thursday, May 25, 2023

أوجيني - رواية فى حلقات مسلسة (الحلقة الثانية)

في اليوم التالي أجريت اتصالا بصديق لي في الإسكندرية ووسط دهشته طلبت منه أن يتقدم لى بإجازة من العمل لظروف عائلية طارئة ستضطرني للسفر خارج البلاد لفترة من الوقت.. بعد تناول الأقطار قررت النزول من البنسيون لاستكشاف معالم المدينة الصغيرة وفي طريقي نحو البوابة سمعت جدالا يدور بين السيدة اوجيني ورجل يبدو من هيئته وأسلوبه في الحديث أنه تابع لجهة رسمية.. توقفت في الردهة لبرهة استمع لنقاشهما الذي بدأت وتيرته تعلو وهو يطالبها أن يقوم محاسبها القانوني بزيارة مصلحة الضرائب عاجلًا لمشاكل في ملفها الضريبي وهي تحاول أن تشرح له أنها ليس لديها محاسب من الأساس وان من قدم الملف هو ابنتها.. لم يكن لدي الرجل ذرة من التفاهم فأضررت أن اتدخل وأنا أبتسم له محييًا.. سيدة أوجيني عفوًا للتأخير وتوجهت إليه مقدمًا نفسي وأنا أبرز كارنية النقابة وبطاقة العمل الخاصة بي محمد عبد المعطي حجازي المحاسب القانوني للسيدة أوجينى .. هلا تكرمت بأعطائي فكرة عن المشكلة.. ألتفت إليّ وبدأ يشرح مشكلة الملف التي بدت بسيطة للغاية وتحتاج فقط إلى تقرير اعمال وطبقًا لملاحظاتي عن البنسيون فإن هامش ربحه بالتأكيد يقع في منطقة الأعفاء إذا ما احتسبت مصروفاته بصورة صحيحة.. شكرته على المعلومات وقلت انها ستمر عليه في مكتبه بمبني المصلحة غدًا صباحًا ومعها كل الأوراق المطلوبة فهز الرجل رأسه متفهمًا وغادر على مهل.. نظرت لي أوجينى باندهاش وهي تكاد تبكي من الفرح أن أحدًا استطاع أن يتكلم لغة هذا الرجل.. بادلت نظرتها بابتسامة صغيرة وبينما هي تشكرني طلبت منها جميع اوراق وفواتير البنسيون خلال السنة السابقة، لم أنتظر ردها وتوجهت عائدًا إلى غرفتي وأعددت طاولة عمل كيفما اتفِق فعاجلتني أوجينى بعد دقائق ومعها ملف كبير يحتوي مئات الأوراق والفواتير تركته علي الطاولة ثم خرجت.. وبعدها بربع ساعة طرقت الباب ودخلت حاملة فنجانًا من القهوة وهي تنظر لي وأنا أعمل وكأنه مختبر للكمياء وقالت لي في ود...

- أتعرف أستاذ محمد.. لم أحب الأرقام أبدًا.. لقد درست في طفولتي حتى الصف السادس وكان والدي دائمًا ما يكرر أنه ليس لي حظ فى التعليم وبعدما تغيرت الحال وجئت إلى مصر ورغم أني اعتدت فى الماضي أن أمتلك الكثير من المال إلا أني لم أكن بارعة أبدًا فى كيفية إدارته والحفاظ عليه..  ثم اتبعت كلامها بتنهيدة طويلة.. نظرت لها وللأوراق.. فانتفضت..

- آ آ عفوًا انت مشغول الآن.. سأذهب وإذا احتجت اي شىء فقط أخبرني وشكرًا لك مرة اخرى..

بادرتها قائلًا..

- كل ما أريده هو آلة حاسبة وبضعة ساعات حتى أنتهي.. 

فأومات وغادرت الغرفة لدقيقة ثم أحضرت الآلة الحاسبة وانسحبت في هدوء.. استغرقت في الأمر حتى فوجئت أن الساعة تعدت الخامسة عصرًا وداهمني أحساس الجوع لكنى كنت راضيًا عن نتيجة التقارير التي أعددتها.. خرجت لأوجيني وأخبرتها أن التقارير المالية صارت جاهزة وأن الموضوع سيكون إجراءات ورقية فقط ولن تحتاج لسداد أي مبالغ للمصلحة.. شكرتني بصدق على مجهودي.. ثم قالت إنها ستأخذ التقارير إلى المصلحة غدًا وأن كنت اود أن أرافقها فهززت رأسي موكدًا على رغبتها وأنا أذكرها أنني محاسبها الخاص من الآن فصاعدًا من وجهة نظر مأمور الضرائب علي الأقل.. طلبت مني أن اتوجه لغرفة الطعام وهي تشير إلي أن لولا قد أعدت طعام الغداء لي بصفة خاصة لأنشغالي في العمل.. جلست على المائدة ولولا تضع الطعام ثم جلست وهي تقول

- ماما أخبرتني بما صنعته اليوم مع موظف الضرائب.. 

انتظرتها أن تكمل ما تريد ان تقوله فصمتت لكنى لاحظت على وجهها إمارات الضيق.. بدأت في تناول طعامي وأنا اختلس النظر بين فينة واخري إلى وجهها المريح واقراطها الكبيرة ولم يفتني ان اتطلع إلى منحنياتها التي تعجبني عبر عباءتها الضيقة أضافت بعد فترة..

- أستاذ محمد.. لا اعرف ماذا تفعل فعلًا ولكن ماما طيبة جدًا.. ولا أريد من أي أحد أن يستغلها...!! أرجو ان تكون قد فهمت معني كلامي..

لم يبد من ملامحي المندهشة أني فهمت فعلًا.. فقلت فى سرعة..

- ماذا تقصدين ...؟؟ كل ما هنالك أنى وجدتها في موقف حرج فعرضت عليها المساعدة والمسالة كلها في جانب اختصاصي كمسؤول مالي ثم أني لم أطلب منها أي آجر.. حدجتني بنظرة صارمة – يا إلهي هذه المرأة تعرف كيف تكون عدوانية حقًا – ثم أجابت فى عنف هذه المرة..

- انت نزيل في البنسيون أستاذ محمد وكل شؤون ماما أنا التي أتولاها وأرجو أن يكون هذا مفهوم... 

لم استوعب منطقها لكنى أجبت بسرعة..

- حسنًا مفهوم.. هل أستطيع الآن أن اتناول طعامي في هدوء..

كانت أوجيني قد جاءت مستفهمة من علو صوتها ونزيل أو أثنين قد وقفوا على باب غرفة الطعام.. فقامت محتدة ثم غادرت الغرفة وأنا مازلت لا أصدق مدي عدم العرفان الذي تتمتع به هذه المرأة.. الفاتنة.. بعد ساعة تقريبًا سمعت طرقات خافتة على باب الغرفة ظننت فى البداية أنها لولا وقد جاءت لتعتذر لكني وجدت اوجينى وقفت على الباب فى مودة وهي تقول..

- مشغول...؟؟ 

أجبت سريعًا..

- بماذا؟! أنا الأنسان الوحيد الذي لا يستطيع أن يدعي انه مشغول في هذه المدينة..

قالت في خفوت..

- أعذرني على الإزعاج ولكني أحب أن احتسي الشاي في الشرفة الخاصة بغرفتك فهي تتمتع بواحدة من أفضل المطلات على القناة في المبني هل يضايقك ان تشاركني هذا الوقت..

نظرت نحو القناة ولم يفتني أن ألمح أن شرفات الغرف الشرقية كلها تطل على القناة لكني قلت فى سرعة

- بالطبع لا يضايقني.. بالعكس بعض الصحبة دواء.. 

أومأت برأسها وغابت لبرهة ثم عادت تدفع بعربة شاي تبدو عتيقة.. دخلت بها الغرفة متوجهة مباشرة إلى الشرفة.. كانت ترتدي غلالة من الدانتيل فوق ثوب ضيق من الحرير برقبة مستديرة وشعرها الذهبي منسدل على كتفيها فى عفوية مبرزا رقبة من المرمر لفتها بقلادة رفيعة من الذهب وانتعلت صندلًا ذا لون أزرق.. تمعنت بدقة في ملامحها وحضورها الأخاذ.. تبعتها وهي تعبر إلى الشرفة.. وجلست إلى المقعد الخشبي المريح المقابل لسور الشرفة واستقرت هي أمامي طرف المقعد الآخر وقد وضعت أمامنا عربة الشاي.. أخدت كوبي وأنا ارتشف الشاي فى تلذذ ولسعة من البرد في الجو قد ظهرت على شفتاها وهي تتكلم ثم بادرتني قائلة..

- أرجوك لا تأخد كلام لولا على محمل الجد..

هززت رأسي بدون أي تعبير حقيقي وهى تردف..

- لولا تعتبرني أختها ولست أمها وهي تتعامل مع كل ما يخصني بحرص شديد وعلى الرغم من أنى علمتها كل شيء إلا أنها ورثت تلك الحدة من والدها..

كنت اعرف تمامًا عما تتحدث فقد اختبرت تلك الحدة منذ أقل من ساعتين.. فأومأت موافقًا.. سحبت اوجينى سيجارة من علبة ذهبية كانت على طاولة الشاي وبدأت تنفسها في تلذذ وهي تقول..

- لا اعرف فعلا ما الذي دفعني لأن اطلب منك مشاركتي هذه الليلة.. أنت انسان لطيف.. وبالرغم من أنك غريب.. الا انى احسست بالراحة عندما جاء بك آدم إلي البنسيون وكأني أعرفك منذ زمن.. 

سرحت في كلماتها فأنا أيضًا أشعر كأني رأيتها من قبل لكن امرأة بجمالها قد يري الواحد فينا مثيلاتها على شاشات السينما او المجلات نفضت الخاطر عن رأسي وألتفت أليها وقد تمددت على طرف الكنبة واضعة قدميها أمامها فانحسر ثوبها الحريري عن أجمل ساقين رأيتهما في حياتي وقالت وهي ترجع رأسها إلى الخلف..

- كما تري فأنا اعيش هنا منذ ان كنت صغيرة ربما في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري.. وتزوجت منذ وطئت أرض مصر من والد لولا الذي لم يستقر له حال حتى فارقني.. كان جمالي مشهود به لكن مع رجل مصري غيور كوالد لولا أصبح هذا الجمال لعنة وفي النهاية تركني ولولا في الرابعة من عمرها وحتى الان لا أدرى ماذا فعلت حتى يتركني وما الذي لم يعجبه فيّ..

كان السبب واضح للغاية فامرأة بهذا الجمال هي كالألماسة النفيسة لا تستطيع ان تحتفظ بها في أدراج مكتبك لكني تدخلت صادقًا..

- ماذا تقولين مدام أوجينى.. انت مثال للجمال والرقة وصحبتك ممتعة للغاية..

تنهدت وهي تقول..

-  كان رجلًا كريمًا وبرغم انفصالنا إلا أنه لم يبخل عليّ ولا على ابنته بالمال أبدًا وبالمناسبة نادني أوجينى فقط أو “جينا” إن أحببت.. أحب ألا يجعلني هذا اللقب أبدو كبيرة في السن.. أرجو الا يضايقك هذا..

 - كلا بالعكس لا يضايقني ابدًا 

وقفت مستندًا على السور متشمما رائحة دخان تبغها الذي امتزج بالنعناع وطلبت منها ان تحكى لي عن وطنها.. فسرحت عينيها قليلا واجترت نفسًا طويلا من سيجارتها ثم قالت انها من اهل قرية على الحدود بين تركيا وسوريا جلَّ أهلها من الأرمن وانها كانت من بين مجموعة من الفتيات التي يعملن في معصرة للعنب الذى هو محصول القرية الوحيد وكيف أنهن كن جميلات بنضرة مراهقتهن وصخبهن وقد تعرفت شابًا يعمل معهم بالمعصرة وأحبته كان حب مراهقة بكل أحاسيسه الجميلة لكن المضايقات من أهلها كانت قد بدأت لتتركه فجمالها واعد برجل ثري يحقق لها الأمان المادي وهذا الشاب رقيق الحال لكنها تمسكت به رغم فقره وبعد قليل لم يكن هناك حل وسط بينها وبين أهلها ففرت معه الى لبنان ومنها ساقتها الأقدار الى السويس بعد رحلة شاقة مع قافلة عسكرية أنقذتها من أيدي بعض لصوص الصحراء بعدما اعتدوا عليها وقتلوا الشاب الذى حاولت جاهدة أن تتذكر اسمه ولكن بقعة ما في عقلها كانت ترفض أن تتذكر تلك الحادثة الاليمة .. وانحدرت دمعة من عينها وقد بدأت بوادر البكاء تغزو الجو فاقتربت منها مربتا على كتفها فأجلستني بجوارها.. كان جسدها دافئا وقد جعلتنا لسعة البرد نقترب من بعضنا البعض وعلى ضوء مصباح خافت ينير الشارع المقابل للشرفة تأملت في ملامحها وتقاسيمها الجميلة.. كان لسعة من البرد المحببة قد صارت بردًا أحسسته في أطراف قدمي ومذاق الشاي الدافئ يبعث على الطمأنينة تحركت في خفة وأحضرت الغطاء من فوق السرير ووضعته فوق رجليها اللتان ضمتهما إلى صدرها وهي تميل لتلقي برأسها على كتفي.. تدثرنا بالغطاء الثقيل وهي وتلتصق بي وبدون أن أدري راحت عيناي في النوم..

في الصباح أفقت على صوتها وهي تضع الافطار على الطاولة الصغيرة بالغرفة وقالت في مودة..

-  صباح الخير أستاذ محمد.. كما اتفقنا بالأمس فأنا ذاهبة الى مصلحة الضرائب وأنت سترافقني..

نظرت لها في دهشة.. متى نمت؟؟! ومن وضعني على سريري؟؟! وكيف سقطت فريسة للنوم حتى لم أحس بها وهي تقودني للسرير او وهي تدخل بالإفطار؟! أومأت لها أني بالتأكيد سأذهب معها.. جلست على المقعد المجاور للسرير فقمت من سريري متجهًا للحمام لم يبدو عليها أي تغير أو تحفظ في تصرفاتها وكأننا أسرة نعيش سوية منذ زمن وعندما خرجت من الحمام كانت قد غادرت الغرفة فارتديت ملابسي وخرجت الي الصالة الخارجية.. كان هناك نزيل جديد يسجل بياناته وقد حلت لولا محل أوجينى في الاستقبال حييتها بصباح الخير وأنا أمر من أمامها.. لم انظر فى عينيها وانا لا اتخيل أن تكون أوجينى قد اخبرتها بأمر جلستنا البارحة.. عند نزولنا أمام المصلحة تأبطت أوجينى ذراعي ودخلت معها الى الموظف المسؤول.. وبينما أعرض عليه الملفات جلست صامتة تماما وكأنها هي مرافقتي وليس العكس كان الموظف يستمع لي وهو غارق في ملامح أوجيني الرائقة.. وبعدما أنهيت الموضوع معه على الوجه الأكمل تسلم منا كل الأوراق وطلب منا مراجعته بعد انتهاء فترة تقديم الإقرارات وقد بدا له أن يستبقينا فقط لينعم برؤية هذا الملاك الجالس أمامي..

خرجنا من المصلحة فابتدرتنى قائلة..

- اظنني مدينة لك بغداء

فأجبت مستفهمًا..

- انت لستِ مدينة لي بأي شيء ولكن ألا تقصدين الغداء الذي تصنعه لولا؟

ردت بسرعة..

- بلي.. أنا مدينة لك بالكثير..

ومالت نحوي بجسدها فظننتها ستقبلني في الشارع.. فأخذت ذراعي وتأبطتها واقتربت مني فبعث قربها دفقات من الدفء في اوصالي.. قالت ونحن نستوقف سيارة التاكسي..

- غدائك هذه المرة ستصنعه لك من علمت لولا..

عدنا للبنسيون وهى تثرثر عن النزلاء ومواقفهم الغريبة وقد راقت لي صحبتها الغير متكلفة وعند دخولنا شكرتني بصوت مرتفع وكأنها تقصد أن تسمع لولا حوارنا فتوجهت الي غرفتي واستلقيت على سريري غافيًا حتى ميعاد الغداء.

No comments: