سقط رأسي على الطاولة، المفروشة بملاءة بيضاء، ازدانت
برسوماتٍ كنت أخطّها عند ضجري بالقلم الجاف. رسوم أعلم أنها لن تغادر القماش
بالغسيل مهما حاولت أمي.
ولم أفكّر وقتها أني أكتب بيدي
قدرًا... وهل يكتب فانٍ مثلي قدرًا؟
ويبدو أني سقطت في النوم ساعاتٍ طويلة. ورأيت ـ فيما يرى
النائم ـ نفسي أعيش لأتخطى الأربعين. رأيتني أبتسم وأحزن. رأيت ألمًا يعتصر قلبي.
ورأيت، ويا للعجب، السيدة فيروز. نعم، فيروز المطربة تجالسني في الحلم ذاته.
وكل ما أعرفه عن فيروز أني سمعتها، كما سمعها غيري، من
مذياعٍ كان رفيق السهر والمذاكرة والليالي الطويلة. وهي تنادي على شادي... أو تقول
في أسى: رجعت الشتوية... أو تبهرني وهي تترنّم: ويخربيت عيونك يا
عالية شو حلوين.
لكنّي أمس، كنت أتذكّر أنها مسّت وترًا في قلبي، حين
قالت ـ بعدما أنهت بثينة كامل عبارتها الشهيرة: خلاص يعني خلاص في
نهاية برنامج اعترافات ليلية:
"عندي ثقة فيك... عندي أمل
فيك... وبيكفيك."
اقتربت مني السيدة الثمانينية، في كامل أبهتها. أمسكت
بيدي وجلست بجانبي. ووجدتها تهديني ورقة صفراء وقلم رصاص. أحسست أنها تودّني أن
أرسم. فرسمت.
خرجت ضربات قلمي مجهولة الملامح، مشتّتة، رمادية. وكانت
تتأملها بعمق. وفجأة أظلم المكان، وسطع نور على يدي، وهي تضرب الورق. وسمعتها خلفي
تقول:
"أهواك بلا أمل... وعينك
تبتسم لي... وورودك تغريني بشهيات القُبل."
توقفت يدي عن الرسم لحظة. ونظرت إليها في دهشة. فرأيتها
تبتسم لي. وكان ثمة سرٌّ بيني وبينها. وكأنها تذكّرني بنظرتها بتلك القبلات
القصيرة، بين أحضان المبنى العتيق.
ابتسمت. وتشجّعت. وأخذت أخطّ رسمتي، غير محدّدة الملامح.
فسمعتها تقول:
"أهواك... ولي قلب بغرامك
يلتهب. تدنيه فيقترب... تقصيه فيغترب."
انتبهت إليها وهي تمدّ يدها ليديّ، فنقف. وعلى أضواء
سيارة توقفت بمنتصف الطريق، رأيت فستانها الأسود المرصّع باللآلئ الفضية اللامعة.
كانت تمسك بيدي ونرقص معًا، في عالم ساحر لا يعيش فيه سوانا، أنا وهي.
تعجبت، إذ تذكّرني بتلك الليلة. فإذا بها تشدو بصوت أتى
من بين أغصانٍ قريبة، وهي تقول:
"فأجيبه... والقلب قد تيمه
الحب... يا بدر أنا السبب... أحببت بلا أمل."
نظرت إلى رسمتي وقد اكتملت. صورة امرأة يلفّها الغموض،
واللون الرمادي يغشي ملامحها، حتى لم أتبين من هي. تساءلت. ونظرت إلى فيروز
لأسألها. لكنها تلاشت... كما اندثر كل ما حولي.
وأفقت على صوت أمي، تقول لي من خلف زجاج الباب:
ـ "حد عايزك على التليفون..."
No comments:
Post a Comment