Tuesday, September 23, 2025

أسرار

 بينما كنتُ أنتظر في تلك الساحة الواسعة، أخذت أقلب بين أغنيات التسعينيات على منصة "ساوند كلاود"، دون أن أبحث عن شيء محدد. توقفت عند أغنية لحميد الشاعري كنت أحبها في الماضي وما زلت، وقد شاركته الغناء فيها الصوت الصاعد آنذاك "أميرة"، التي ظللت مقتنعًا أنها لم تأخذ نصيبها من النجومية، رغم أنها أصدرت ألبومات خاصة وغنّت مع محمد منير، إلا أن تعاونها مع حميد كان مختلفًا ومميزًا. تلك الأغنية تحديدًا كنت أستمتع بها، إذ يغنيها لحبيبته التي وصفها بـ"قلبه النونو"، لتدخل أميرة بصوتها الرقيق مرددة: "قلبه النونوه".

مضت دقائق قبل أن ألمح إحدى الموظفات التي اعتدت رؤيتها هناك. لم أتعمد مراقبتها، ولا غيرها من النساء اللاتي يزدحم بهن المكان، لكن وقت الانتظار الطويل يجعلني أتابع حركاتهن بعفوية، وأحاول - بدافع فطرتي الذكورية - أن أبني صورًا عن شخصياتهن. غير أن شيئًا ما في هذه المرأة شدني على غير العادة. شعرت بقشعريرة تسري في عنقي؛ ذلك الإحساس الذي أعرفه منذ الطفولة، عندما صادفت مواقف غامضة لم أجد لها تفسيرًا يومًا. رأيتها تمشي منهكة، ورأيت كيانًا غير محدد الملامح يثقل كتفيها.

بعد قليل وصلت صديقتي التي كنت بانتظارها. ونحن في السيارة، سألتها عن العمل، فأجابت بابتسامة لطيفة أن كل شيء يسير على ما يرام. خطر لي أن أذكر تلك الموظفة فقلت: "لاحظت أن إحدى زميلاتك بدت متعبة… أقصد كاميليا، السيدة المصرية ذات الجينز والبلوزات القصيرة والارداف العريضة". ابتسمت صديقتي للوصف الدقيق وقالت: "صحيح، منذ أسبوعين تقريبًا تبدو مريضة، لكنها راجعت الطبيب ولم يجد شيئًا محددًا". عندها علّقت بجدية: "هل علاقتها بزوجها جيدة؟" نظرت إليّ متعجبة ثم وعدتني أن تتحقق من الأمر.

مرّ أسبوعان، ثم التقينا مجددًا على الغداء. وقبل أن نطلب الطعام، أمسكت بيدي فجأة وقالت: "اليوم تحدثت مع كاميليا… لن تصدق ما أخبرتني به". ارتجف بدني بمجرد ذكرها، فأصغيت بكل انتباه. روت لي أن كاميليا أسرّت لها بأن صديقة قريبة من زوجها أخبرتها بأن أحدهم لجأ إلى قوى غامضة للإضرار بها، وأن رجلاً تواصل معها ليخلّصها من الأذى طالبًا صورتها وصوتها المسجل. ضحكت صديقتي ساخرًة: "أنتم العرب تؤمنون بخرافات غريبة!".

قلت لها بجدية امتزجت بالمزاح: "أخبريها ألا تعطيه شيئًا… فهو غالبًا من دبّر الأمر ضدها". اتسعت عيناها دهشة وهي تسألني: "وكيف عرفت؟" أجبتها: "هكذا تكون القصة دائمًا". لكن داخلي كان يرتجف، فقد رأيت الأمر بوضوح في تلك اللحظة، رأيت الكلمات كتبت على كفّي بمنتهى الوضوح.

في اليوم التالي، فوجئت باتصال من كاميليا نفسها. لم تترك مساحة للمجاملات، بل سألتني مباشرة: "كيف عرفت؟". تلعثمت قليلًا ثم قلت: "لا أدري، لكن عندما رأيتك قبل أسبوعين أحسست بشيء ما". توسلت إليّ أن نلتقي وتحدثني أكثر، لكني أجبتها بحزم: "مدام كاميليا، أنا تأتيني رؤى أحيانًا، لكنها ليست علمًا ولا قدرة خاصة. نصيحتي الوحيدة: ابتعدي عن ذلك الرجل، وابحثي عن شيخ موثوق هنا يساعدك".

صمتت لحظة ثم أطلقت تنهيدة ارتياح وكأنها فهمت رغبتي في النأي بنفسي عن القصة. أنهت المكالمة بود، متطلعة إلى ان نتحدث لاحقًا، أغلقت الهاتف بهدوء، ثم وضعته على الطاولة بجانبي واستسلمت للنوم.

No comments: