Saturday, December 31, 2022

وجوه.. رواية في حلقات منفصلة (الحلقة التاسعة)

 

ابتسمت أمال وهي تسألني..

- حامد ان كل العاملين تقريبا يعرفوك.. كأنك واحد من ملاك المطعم ولست زبونًا..

ابتسمت وانا أقول لها انها واحدة من عيوبي فما ان أجرب مكانا واجده مريحا الا واستهلكه تماما..

ضحكت في بساطة وقالت انها واحدة من صور التعلق وهي إحدى صور الإنسان العاطفي..

نظرت لها أتأمل ملامحها المثالية أنف مدبب وعينان واسعتان وشعرها الأصفر المصبوغ حديثا ينسدل على كتفيها وظهرها في عفوية وغرته تداعب جبينها بلطف وشفتيها المكتنزتان وخاصة الشفة العلوية التي تبدو شهية للغاية بعدما صبغتها باللون الأحمر الداكن الذي يلائم تنورتها ذات اللون الأحمر القاني وبلوزتها البيضاء التي تشف عن ملابس داخلية مختارة بعناية ...لطالما كانت أمال ومنذ التقينا في عيادتها وانا اصحب واحدة من صديقاتي نموذج للمراءة الأنيقة التي تهتم للغاية بالتفاصيل، وكيف لا وهي البارعة في الطب النفسي وها هي لم تتجاوز نهاية العقد الثالث وقد اصبحت واحدة من اهم الأطباء النفسيين في مدينتنا الكبيرة. نظرت نحوي وابتسمت عندما رأتني أتأمل ملامحها وقالت

- تتفرس في ملامحي وكاننا نتلاقى لأول مرة.. منذ متي ونحن نعرف بعض.. سنتين؟!

قلت مسرعا

- مخطىء يا عزيزتي من يجلس أمام مثل هذا الجمال ولا تستمتع حواسه برؤياه وعلى كلّ فإن كل الشكر لعالية فقد كانت هي السبب في ان القاكِ لأول مرة وما بعدها..

بدت حمرة الخجل فى وجنتاها وقالت في سرعة

- صحيح ذكرتني عالية. لم تزورني منذ فترة كيف حالها الان..

ابتسمت وانا اربت على يديها واستمتع بملمسها الناعم..

- أنت طبيبة ماهرة أمال وعالية أفضل كثير حاليا..

قالت متسائلة

- هل مازالت مع صلاح؟

- نعم مازالت معه لكنهم فعليا منفصلين منذ مدة.. عندما اخبرتني حاولت ان أكون حيادي ولا اعبر عن ارتياحي.. لم أحب صلاح في الحقيقة ومنذ اللحظة الاولي التي عرفتني به.. احسست انه سيكون سببا للمشاكل على الرغم من ثقافته المنفتحة وتربيته الغربية..

استأذنت أمال لتعدل من زينتها.. فهززت راسي بمعني بكل سرور وانا أقول في نفسي يبدو ان السيدات والفتيات سواء يستخدمن نفس العبارة إذا رغبن في دخول الحمام على الرغم من انها عبارة مكشوفة جدا.. فزينة أمال نموذجية تقريبا ولكنها طريقة تعبر عن التهذيب واللطافة وهو امر لا يمكن أن يكون هناك من ينزعج منه.. نظرت نحو البحر وسرحت أفكاري في اليوم الذي قابلت فيه عالية لأول مرة.. كم مر من الوقت على هذا اليوم خمس سنوات تقريبا او أكثر.. تقابلنا في دار الأوبرا كانت بصحبة هويدا ويبدو انهما كانتا هناك بطلب من عالية لأني اعرف هويدا جيدا وهي ليست واحدة ممن يحضرون لدار الاوبرا لمشاهدة الاعمال الفنية او العروض المسرحية.. وقتها صاحت هويدا بإسمي بطريقة لا تناسب المكان ابدا فابتسمت وانا اضع إصبعي على شفتي أمرا أيها ان تخفض صوتها فأطلقت ضحكة عالية وهي تهز رأسها ان حسنًا حاضر والتفتت نحو عالية وقدمتني لها..

- أعرفك يا عالية حامد الذي كنت حكيت لك عنه..

نظرت نحوها غير مصدق.. هل انت انسانة طبيعية وهل هذه طريقة لتقديم الناس.. ابتسمت عالية وقتها وقالت اسمها مباشرة

- عالية تشرفت أستاذ حامد وارجوك لا تنزعج من هويدا فأنا اعرفها جيدا وهي فقط تحب المزاح..

قضينا السهرة في الأوبرا وكان البرنامج يتضمن عرضا من المسرح التجريبي وندوة للمخرج.. والمسرح التجريبي يقوم في الأساس على فكرة ان تقوم بكتابة أي شيء بصورة مطلقة سواء كان الموضوع مهم او تافه قصير او طويل ثم تستخدم البشر والمؤثرات الصوتية والضوئية والحركية في جعلهم يؤدونه على المسرح كيفما اتفق.. وللأسف كان حظنا في عرض للمخرج علاء ناصف الذي اشتهر باتجاهاته الخيالية ولم نسلم من لسان هويدا التي أجلستني في المنتصف وجلست على طرف المقاعد ليسهل عليها الحركة للذهاب للحمام كما أعلنت وبمنتهى الوضوح منذ بداية العرض.. بدأت هويدا في إطلاق التعليقات منذ اول لحظة في العرض.. الذي افتتحوه بفتاة تجري على المسرح الكبير لدار الاوبرا وهي ترتدي زيا مطاطيا يغطي جسدها بالكامل وبدت وكأنها لا ترتدي اسفله أي شيء لان صدرها وردفيها كانا يهتزان في عنف وارتمت على الأرض في وضع مسطح ثم تبعتها أربعة فتيات في زي لم يقل عن زي الفتاة الاولي في كشف تفاصيل اجسادهن ومنحنياتها وبعد قليل دخل على خشبة المسرح رجل يرتدي زي مينوتور أي نصفه انسان ونصفه ثور وطاف بأرجاء المسرح والفتيات يتمسحن في جسده القوي.. كان مشهدا عجيبا وان كان ممتعا للغاية لان الفتيات كن متناسقات بأجسام فتية وجميلات والمشهد يبدو كلحن يعزف بالأجساد.. هذا بالطبع من وجهة نظري ولكن هويدا ولسانها السليط رفضا ان يتركاني استمتع بالنغمة المرئية فانطلقت تعليقاتها اللاذعة وهي توجهها لعالية التي كان الخجل ظاهرا على وجنتيها المكتنزتان.. عرفت الان لماذا انت حريصة على العروض المسرحية يا حبيبتي.. سكتت برهة ثم ابت ان تمرر المشهد التالي الذي كان عبارة عن شبكة حديدية نزلت من اعلي المسرح ثم بدأت مجموعة من ثمانية فتيات تقريبا بذات الزي الكاشف يتسلقن الشبكة وهن يولين ظهرهن للجمهور ومن امامهن من الطرف الاخر ثمانية شباب يتسلقن أيضا وتتلاقى اجسادهن تفصلها الشبكة الحديدية في مشهد بدا انه تجسيد للحواجز النفسية بين الرجال والنساء ولكن بالنسبة لهويدا فقد كان هذا وعلى حد تعبيرها أفضل من مشاهدة فيلم جنسي مثير.. هنا طفح الكيل فأمسكت يدها وضغطت عليها وقلت في اذنها..

- هويدا أرجوكِ إذا كان الامر يقتصر عليّ انا فأنا لا يهمني تعليقاتك تلك ولكن ارحمي صديقتك التي ستموت من الخجل على الجانب الاخر..

استجابت أخيرا وتوقفت عن التعليقات واستمر العرض لتسعون دقيقة اخري من الصور البصرية والضوئية والموسيقية لكن والحق يقال كانت جرعة المثيرات في هذا العرض كبيرة حتى ان الشباب نفسهم ارتدوا أزياء كانت تبين اعضائهم الذكرية بوضوح وفي بعض المشاهد كانت الفتيات يحتسسنها بشكل غير مباشر وكان هذا كثير في الواقع مما جعل الكثير من رواد المسرح يتسللون خارجين حتى لم يبقي الا عدة مقاعد متفرقة منها نحن الثلاثة.. بعد انتهاء العرض وبداية الندوة توجهنا الي لوبي الاوبرا نحو كافيتريا صغيرة اعرفها جيدًَا.. قدمت للفتاتين كأسين من العصير وطلبت لنفسي قدح من القهوة وجلسنا.. بدأت حديثًا وانا اناقش عالية في العرض والصور التي قدمها.. أما هويدا فقد ضحكت ضحكة رقيعة وهي تقول

- صور.. أي صور...هؤلاء حفنة شباب يحتاجون فقط غرفة ليطلقوا العنان لرغباتهم الجنسية..

نظرت لها محذرا.. فأخرجت واحدة من سجائرها وقبل ان تشعلها طلب منها العامل ان تتوجه لمنطقة المدخنين فقالت

- حسنا.. حسنا.. سأترك لكم المكان كله

ثم قامت نحو منطقة المدخنين وتركتني وعالية.. كانت لعالية ملامح طفولية رائعة وجه ممتلئ بلطف وشفتان مكتنزتان وجسم ملفوف يميل للامتلاء ترتدي فستانا واسعا لم يبين شكل جسدها بوضوح وشعرها بدا ناعما وهو يخرج من مقدمة الايشارب الذي لفت به رأسها.. بدت مثقفة الي حد كبير وتتابع الاخبار الثقافية والفنية.. تجاذبنا أطراف الحديث فترة قبل ان تأتي هويدا مسرعة وهي تقول في عجلة..

- عفوا يا عالية انا مضطرة ان ارحل الان.. موضوع طارئ جدا

قمت بسرعة اقول لها

- سأوصلك ما هو الأمر..

- أهدا يا عزيزي.. انه اخي اتصل بي واختلفنا كالعادة ويريد ان يأخذني لاجتماع العائلة عنده في البيت وقد حلف بالطلاق ان لم اذهب ألا أزور بيته مرة اخري.. كلام فارغ ولكن ما حيلتي لا اريده ان يطلق امرأته فهي والشهادة لله أمراءه جميلة وجسمها جميل وهناك شامة على...

هتفت فيها

- هويدا ارجوكِ.. اذهبي.. هل سيأتي اخوك ليأخذك؟

- نعم هو عند الباب تقريبا عفوا يا عالية.. سأتركك مع حامد يمكنكما ان تستكملا حديثكما ولا تخافي حامد صديقي من زمن طويل وانا اثق فيه أكثر منك..

نظرت عالية للأرض بخجل وهي حركة تكررها كلما أطلقت هويدا واحدة من قذائفها.. رحلت هويدا وتركتنا وقد تخوفت ان يكون الجو مشحونا ولكن على العكس تماما فبعد رحيل هويدا انطلقت عالية في الحديث بأريحية أكبر وتبادلنا ارقام الهواتف وبعدما قمنا لنمشي في صحن المبني الكبير عرضت عليها ان اوصلها فوافقت بابتسامة لطيفة.. نزلت عند مدخل بيتها الذي كان عمارة كبيرة في منطقة راقية وهي تقول إنها سيسعدها أن نلتقي في وقت قريب.. وقد كان..

هناك دوما شيئا ما يجذبني نحو الفتيات الممتلئات.. شيئًا ما في شكلهن في صوتهن في اسلوبهن.. دائما ما كنت أقول لنفسي ان السبب انهن يعرفن انهن ممتلئات وفي عالم قد وصف حدود الجمال بالرشاقة فهن خارج هذا المنافسة ولكن الحال لم ينطبق على عالية ففي المرة التالية التي رايتها فيها خرجنا لمهرجان الكتاب الذي كان في المعرض الكبير وقد حضرت بزي رياضي ضيق وقد أطلقت شعرها وقد بدت منحنيات جسدها الواضحة والتي بدا ان البزة الرياضية تحتويها جيدا تبرز رشاقتها مما جعلها في نظري جميلة للغاية بل ومثيرة الي حد كبير.. قضينا هذا اليوم وغيره سويا بدون ازعاج هويدا والتي كانت تقول لي من وقت لأخر أن عالية تحكي لها على كل شيء.. فأكتفي بأن اهز اكتافي وأقول

- وإذا لم تحكي هي سأحكي انا لا تقلقي..

تعددت لقاءاتي وعالية وبدا ان هناك علاقة وطيدة تتكون بيننا.. كنت معجب ببساطتها وجمالها الطفولي واهتماماتنا المشتركة وكانت هي تعبر مباشرة عن رغبتها في صحبتي.. في أحد الأيام كنت أقيم حفلا صغيرا مقصورا على أصدقاء العمل في شقتي وقد دعوت هويدا وعالية وقد حضرتا مع الأصدقاء وكانت ليلة لطيفة للغاية وبدأ المدعون في الانصراف واحسست ان عالية تستبقي نفسها.. وانصرف الجميع عداها وقد عبرت عن إصرارها ان تساعدني في تسوية وضع الشقة التي انقلبت رأسا على عقب بعد الحفل فأخبرتها ان هناك من يساعدني من الشغالات وأنها لا يجب عليها ان تتعب نفسها فأبت.. مما عرفته عن عالية أنها رياضية جدا وقد صحبتها عدة مرات للنادي الرياضي بحيهم الراقي ورأيتهم وهي تمارس رياضة كالجري وتمارين الإحماء السريعة والتي بدت لا تناسب جسمها المكتنز فكانت صورة مثيرة للغاية بالنسبة لي احببتها وجعلت تعلقي بها يزداد.. بدأت تتحرك في سرعة وتأخذ الأطباق للمطبخ وانا اساعدها بكل جدية وان بدا عليّ الإرهاق بعد اليوم الطويل.. كانت تتحرك بسرعة وكانت علاقتنا قد تطورت الي بعص الملامسات الخفيفة وحينما كانت تمر أمامي كنت عفويا امد يدي اتلمس جسمها اللدن فتطلق اهه خافتة وهي تقول في جدية

- حامد ارجوك دعنا نرتب المنزل

بعد نصف ساعة تقريبا بدا ان اجتياح التتار الذي كانت عليه الردهة الكبرة قد بدأ يزول ولكني كنت في حالة غريبة من الاثارة والشغف بعالية التي كانت بالمطبخ ترتب بعض الاطباق فلحقتها ومررت يدي على فستانها الضيق الذي يرسم حدود جسها بحرفية شديدة استسلمت للمساتي ولم تمنعني فاقتربت منها واحتضنتها وعرفت وقتها لماذا اميل لها فقد كانت دافئة لدنة اعطتني إحساسا بالنشوة قلما عرفته وقد بدا ان ليلتنا تلك سيكون فيها ما هو أكثر من ذلك.. وعندما قبلتها ونظرت في عينيها رأيت موافقتها.. فانتقلنا الي حيث يمكننا ان نستمر فيما نفعله.. كانت مقدماتنا لطيفة وسلسة وكانت هي تتصرف بعفوية شديدة ولم تبد التحرج المبالغ فيه كامرأة في مرتها الاولي مع رجل ولكنها تركت لي زمام الأمور كنت متوقا لجسدها الذي طالما اثارني.. وقد منحته لي بكامل ارادتها.. فكانت طيعة في يدي بكل المعاني.. بعد سجال بدا عنيفًا وان ظننت انه لم يكن كذلك استلقت بجانبي محتضنة اياي من ظهري ولم تمر دقائق حتى كنت قد سقطت في نوم عميق.. صحوت في اليوم التالي فوجدتها قد استيقظت واعدت إفطارا خفيفا.. نظرت نحوي تسألني..

- ألن تسألني.

قلت في بساطة وبشكل مباشر

- لا.. انت جميلة وانا أحببت الوقت معك جدا ولا اريد أفسد هذا الجمال بأي سؤال ليس في محله..

رأيت في عينيها نظرة اعجاب بكلماتي.. فأحسست بالسعادة لأني اخترت الكلمات المناسبة.. ولكنها قالت

- لكني سأحكي لك بالتأكيد ولكن ليس الان حتى لا تتأخر على عملك..

تقابلنا بعدها في زيارة لحدث اجتماعي في المكتبة الكبيرة وبعد انتهاءه عادت معي للمنزل اعدت كوبين من الشاي وخرجنا نجلس في الشرفة المطلة على الحديقة الواسعة.. جلست وهي تقول

- حامد اريد ان احكي لك الان..

نظرت نحو عينيها السوداوين وانا أقول

- وانا كل إذان صاغية يا عزيزتي.. قالت

- كما لاحظت حامد فأنا من اسرة ثرية الي حد كبير توفي والدي وانا طفلة صغيرة وترك لي ولأمي ثروة كبيرة وقد تولى رعايتنا خالي الذي كان لم يتزوج وقتها.. كان عمري ربما أربعة عشرة او خمسة عشرة سنة تقريبا.. وامي مشغولة بصديقاتها والنادي ومواعيدها الكثيرة.. كنا أثرياء وكنت مختلفة عن الفتيات من حولي.. كنت أرى نظراتهم لي ولطريقة اختياري لملابسي المختلفة وكان هذا بشكل ما يشعرني بالأهمية والسعادة.. بالمناسبة فأنا لم أكن ممتلئة في ذلك الوقت..

ابتسمت.. وهي تردف

- ولكني كنت كأي فتاة عندي فضول كبير لاكتشف واعرف.. وكان خالد هو اول شخص استطعت ان احاوره.. تعرفت عليه في المرحلة الثانوية.. وكان يكبرني بعشر سنوات على الأقل.. فبدأت اسأله عن كل شيء وأي شيء.. فكان يجاوبني في لطف ويعرفني ما خفي علي.. كان موسوعي بمعنى الكلمة.. اعجبني الوقت الذي كنا نقضيه في شقة عمه المهاجر لأمريكا منذ زمن والذي يحتفظ بنسخة من مفتاحها صنعها خفية عن مفتاح أبيه.. كان الوقت معه لذيذ لدرجة أنى تمنيت ان اقضي معه كل ساعة وكل يوم ولكن خالد كان واضحا وافهمني ما يحيط هذا الموضوع من عادات وتقاليد وغيرها وكنت فطنة وعرفت ان تلك المتعة لابد وان يأتي معها كتمان..

هنا نظرت عالية في عيني لتري رد فعلي على حكايتها ولكني كنت متيقظا ومستعدا لهذه النظرة.. فهي تحكي لي عن سر اسرارها ولا يمكن ان اجعلها تشعر بأي إحساس من الضيق او الانزعاج مهما كان بسيطا.. فأوليت لها كل أحاسيسي استمع لها بمنتهى الصدق والشغف.. أكملت وهي تلقي بشعرها خلف ظهرها.. 

- كانت كخطوات سلم كلما صعدت درجة تطلعت للدرجة التي تليها.. لم يمر وقت طويل حتى بدأت علاقتنا تأخذ منحي جديد.. كان خالد هو الشريك المثالي للحياة من وجهة نظري.. لكني كنت طفلة ففي النهاية وبعد عدة سنوات من معرفتي به والتحاقي بالجامعة تعرف هو على شاهيناز التي أصبحت زوجته فيما بعد.. وهي سيدة لطيفة وجميلة بالمناسبة ولكن حياتهم العائلية - لو تفهم ما أعنيه - ليست على ما يرام.. واظن انني انا السبب الرئيس لهذا الموضوع.. خلال تلك السنوات كنت أنا وهو على وفاق تام ولم نختلف ولا مرة واحدة كنت مطيعة تماما وكان هو حنونا لأقصي درجة.. تنهدت عالية تنهيدة عميقة وهي تكمل..

- كنت في السنة النهائية بالجامعة عندما تزوج وقد تفاهمنا نحو طبيعة علاقتنا واتفقنا ان تكون من أجمل ذكرياتنا لان فرق المستوى الاجتماعي والسن بيننا قد قضى على علاقتنا بالانتهاء الحتمي.. خلال تلك السنوات كان خالد حريصا جدا على عذريتي ولم يتمادى ولو لمرة واحدة.. تعرفت بعدها على عدة اشخاص لم يوافق أحدهم رغباتي واسلوبي غير واحد كان للأسف متزوجا ولكنه كان معجبًا بي للغاية وطبيعة رغباتي كانت تثيره أيضا ولكن زوجته علمت بأمرنا بعد سنتين تقريبا وقد اختار اسرته في النهاية ومن وقتها لم اقابل شخص متوافق معي حتى قابلتك وكان بيننا ما تعرفه..

نظرت نحوها في حنان وقلت

- يبدو ان حياتك كان فيها منعطفات شديدة عالية ولكنك هنا الان.. ويجب ان تفكري في المستقبل..

قالت فيما بدا انها عصبية..

- حامد انا محتارة جدا.. لماذا أنا مختلفة.. ولماذا أميل لكبار السن بهذا الشكل..

قمت وجلست بجوارها وربت على كتفها واحتضنتها وقلت

- لا تقلقي مهما كان الأمر سنتخطاه بالتأكيد سويا..

دفنت نفسها في حضني لمدة حتى احسست انها نامت فأخذت بيديها وارقدتها على السرير.. وانتقلت للبهو الكبير واخترت كنبتي المفضلة فاستلقيت عليها حتى الصباح..

لم يمض على تلك الأوقات الجميلة الوقت الكثير فقد اضطرت عالية للسفر لوالدتها في فرنسا لمدة سنة تقريبا وفي هذا الاثناء انشغلت انا أيضا بعملي وامور أخرى.. وعادت عالية بعدها واتصلت بي وتقابلنا.. كانت حريصة في كلامها وهي تخبرني عن صلاح الذي عرفتها امها عليه في فرنسا والذي بينهما الان مشروع زواج ولكن اذني لم تخطئ نبرة اشتياقها ولكني كعادتي في موقف كهذا اترك الدفة في يد الشخص الاخر لأني أحس ان دوري في حياته سيحدده هو وانا اعطيه هذه الميزة راضيا مطمئنا.. بعد وقت قصير تم زفافهما.. ولم تهاتفني عالية الا بعد شهرين تقريبا وطلبت مقابلتي ثم حكت لي عن علاقتهما وكيف ان صلاح يجاريها ولكنه غير مهتم بحياتهما الشخصية حقيقة وأنها مكتئبة وتشعر انها غير سوية لأنها تراه وبرغم تقاربهما في السن أخرق ولا يصلح لتحمل المسؤولية.. هنا قفز اسم الدكتورة أمال شلبي في ذهني وهو الذي أخبرني عنه سمير عندما زارها مع ابنة أخيه التي تعاني من اكتئاب ما بعد الانفصال العاطفي.. زرناها سويا انا وعالية وقد أصرت عالية بشكل غريب ان احضر معها جلسة الاستماع التي تخصصها الطبيبة لان تحكي المريضة عن اسباب زيارتها وبعد عدة زيارات بدأت عالية تتحسن بشكل كبير في تقبل طبيعتها ونفسها.. بل وبدأت تتفهم ابتعاد صلاح عنها لاختلاف شخصيته عنها وكان من حسن الحظ انني وامال صرنا صديقين.. توقف سيل الذكريات مع رجوع امال من الحمام.. نظرت تحوي وهي تنبهني..

- اين كنت غارقا في افكارك..

قلت لها

- كنت أفكر في اول لقائنا وعالية..

ابتسمت هي تقول

- اتعرف يا حامد.. لقد قابلت حالات كثيرة جدا وعالية ليست بدعا منهم ولكنها مختلفة لحد كبير.. مختلفة من ناحية انها استطاعت زرع فكرة في مخيلتي أصبحت تراودني بشكل يومي وانا الطبيبة النفسية المحنكة ولكني كأي نفس بشرية زرع الأفكار بها وارد..

ابتسمت وانا اعرف ما ترمي اليه وقلت

- في هذه الحالة يا عزيزتي سيكون سعيد الحظ للغاية من تختارينه لاستكشاف هذا الجانب من شخصيتك..

ابتسمت ابتسامة عريضة وهي تقول لي

- سندع ذلك لوقته ولكن هيا بنا سنتأخر على ميعاد السينما..

قمت ونقدت النادل الفاتورة وثنيت ذراعي فتعلقت امال فيه في بساطة وخرجنا سويا...

***

وجوه.. رواية في حلقات منفصلة (الحلقة الثامنة)

 

ألا يوجد هاتف عمومي واحد يعمل في هذا الشارع اللعين. هتفت بالعبارة في سخط وأنا أتقافز كالبجعة فوق برك المطر المتناثرة على الرصيف بين كبائن "الميناتل" المنتشرة بطول الشارع الرئيسي. أخيرًا وجدت واحدة تعمل دسست راسي تحت سقفها المنخفض احتمي به من المطر ثم طلبت الرقم في عصبية. ثوان من الانتظار بدت كدهر ثم انساب الصوت الرقيق في اذني فتحول المطر الي رذاذ منعش والماء المنتشر بطول الشارع الي هبة من الطبيعة تغسل بها وجه الارض العكر. بعد برهة فاجأتني.

- سأغلق الخط الآن. مضطرة.. بابا قادم.. انتظر أمام الكابينة سأكلمك مرة اخري.

اغلقت الخط ساخطًا شاعرًا بقسوة البرد على ظهري فازداد التصاقي بالكابينة كأنها تمنحني الدفء. تقدم مني شاب بدا كأنه يريد استعمال الكابينة فرفعت السماعة فورا وانطلقت أحدث شعبان في موضوع الأرض التي سنقتسمها بعد ان تدخل في كوردون المباني. وقف الشاب برهة يحاول أن يمد عينية للشاشة ذات السطر الواحد التي تظهر ما تبقى من رصيد لدي.. عرفت ذلك بنظرة جانبية له فملئت محيط الكابينة بجسدي رافعًا صوتي لمستوي أعلي بأنه لا يجوز ان يقتسم شعبان معي العمولة بنسبة غير النصف بالنصف كما اتفقنا وليس باي نسبة اخري أتبعت الحديث بحلف بالطلاق وعليَّ الحرام من بيتي عدة مرات وان كنت لا أعرف حقيقة ماذا تعني عبارة على َّ الحرام من بيتي لكنها بدت مقنعة جدا من وجهة نظري.. وقف الشاب دقيقة يختبر جديتي رفعت صوتي أكثر ثم احسست به ينصرف تحت وطأة المطر.. بعد ثوان رن هاتف الكابينة العمومي مرة اخري.. حمدا لله انه دق بعد رحيل الشاب والا لكان الموقف محرج للغاية.. سألتها بدون ان أفكر..

- هل انصرف بابا؟! ..

رد علي صوت ضاحك لم أميزه..

- نعم انصرف من فترة طويلة في الواقع توفي منذ اربعة سنوات.

تبعت تلك العبارة ضحكة طويلة.. ارتبكت وانا أرد..

- ألو رانيا ماذا بك..

رد على الصوت الانثوي الذي بدأت اتبين انه ليس صوت رانيا بالتأكيد..

- أنا لست رانيا أنا شهيرة.. آسفة يبدو أنى طلبت رقم خاطئ.

اجبت في سرعة هذه كابينة هاتف "ميناتل" عمومية. ردت باستغراب.

- ولماذا ترد على كابينة هاتف عمومية..

سرحت في السؤال رغمًا عني. كنت استمتع بالحديث مع الغرباء في الهاتف. تخيل معي.. شخص لا تعرفه ولا يعرفك..  لا يربطك به اي شيء في الواقع. تستطيع ان تشاركه افكار وهموم وحتى جرائم ارتكبتها بدون ان يحكم عليك او يحاسبك.. كما في ذلك البرنامج الذي انتشر مؤخرًا "اعترافات ليلية" مجرد أشخاص عشوائيين يتصلون بمذيعة البرنامج يتكلمون في أمورهم فيما يشبه الاعتراف ويجب ان أقر ان البرنامج كان له صديً رهيب وانتشر امره في كافة اوساط المجتمع. تخيل شخص مجهول كل ما بينكم هو ذلك الخط الكهربائي المعد للتوقف بمجرد ضغطة زر من احدكما. بالطبع هذا كله كان هذا قبل اختراع المحمول اللعين الذي جعل التعرف الي مكانك حتى في دورة المياه امر ممكن. جاء صوتها في النهاية لينتزعني من تلك الافكار..

- ألو.. هل ما زلت معي.

اجبتها جادًا..

- انا في انتظار مكالمة من صديقتي..

سألتني مباشرة وبطريقة بدت عفوية تمامًا..

- حلوة.؟

- نعم!!

- حلوة صديقتك دي؟

توقفت برهة وكأنما فاجئني السؤال ثم رددت..

- بالتأكيد.

سألتني مرة اخري..

- لماذا ارتبكت قبل ان ترد؟

- هل انت طبيبة نفسية..

- في الواقع لا لكن اظن أنك لست معجب بمظهر صديقتك بصورة كبيرة.

تباً لصوتي الذي يحرمني نعمة الكذب ويفضحني عندما أبدل مشاعري..

- شيء غريب جدا ان تحكمي على رأيي من صوتي.  

- في الحقيقة لا اعرف ما هو السبب ولكني أحس بالأصوات بصورة مختلفة.

صمتت برهة ثم قالت..

- أنا لم أكن اعرف هذا الرقم قبل ان أحدثك.. لقد طلبته عشوائيا لأني اشعر بملل رهيب.... دعني أقدم نفسي لك كما يجب فربما ينقطع الاتصال في اي وقت.. انا شهيرة دبلوم تجارة من العاصمة اعيش مع ماما وبنتي الصغيرة وانت؟؟

إذا فانتِ من محبي الحديث مع الغرباء مثلي يا لها من مصادفة. كانت دعوة لمشاركة المعلومات وكما قلت لك سلفًا.. يسبب لي هذا الامر نوع من النشوة.. واظن انه ليس أمرًا خاصًا بي فقط.. خاصة مع الانتشار العالمي لموضوع المعاكسات التليفونية قبل اختراع اظهار الرقم اللعين. اجبت مباشرة هذه المرة..

- حامد محاسب استيراد وتصدير اعيش منفردا في المدينة الساحلية.

- ما سبب الضوضاء التي في خلفية كلامك يا حامد.

- في الحقيقة لا اعرف اي ضوضاء تقصدين. لو كنتي تشيرين إلى الهاتف فهذا طبيعي.. اما لو كنتي تقصدين المطر فهو ينهمر بغزارة..

- مطر الله أحب المطر جدا.. لا تمطر هنا الا نادرا.. وانت تقف في هذا الجو لتكلم صديقتك. شيء رومانسي جدًا.

- قد يكون هذا هو السبب الذي دفعني لأكلمها. لكننا معتادان على تبادل الحديث في هذا الوقت من الليل..

- محظوظة هي هذه الفتاة.. علي كل حال هل تعرف اني احب المدينة الساحلية جدا ولابد ان ازورها كل سنة مرة على الاقل..

- نحن كذلك نحبها لكنها تكون أجمل في الشتاء.

- فعلا كثيرين وصفوها بانها الاجمل في هذا الوقت.

- ربما يجب عليك ان تزوريها في الشتاء لتستمتعي بالمدينة والمطر في نفس الوقت. ولكن هل يمكن ان اغلق الخط الان فقد تتصل صديقتي في اي وقت...

- حامد..

- نعم..

- ممكن أطلب منك طلب؟

- تفضلي.. 

- ممكن رقم هاتفك..

- ليس عندي مانع.. تفضلي.. خمسين ستين سبعين تمانين خمسة وتمانين.. بالمناسبة لا أكون موجودًا في البيت قبل الساعة السابعة مساءا. فانا أنهي عملي في الخامسة وعادةً أخرج مع اصدقائي بعد العمل وهناك امر أخر للأسف.  الخط الذي في البيت لا يعمل لأني لم أدفع الفاتورة حتى الان بسبب ظروف مادية.

- لا تقلق سوف اتصل بك على امل أنك تكون قد دفعت الفاتورة ولعلي أجدك لأتكلم معك عندما احتاج أن اتكلم مع صديق انت تبدو رجل مهذب من صوتك واظن أنك لن تمانع..

- ابدًا بالعكس.. تفضلي في اي وقت.

- حسنًا سأتركك الآن فربما اتصلت صديقتك والخط مشغول فتنزعج ان تظن أنك رحلت. مع السلامة.

- مع السلامة..

بعد عدة دقائق رن الهاتف.. تحدثت الي رانيا بنصف تركيز.. فقد كانت المحادثة السابقة مازالت تتحرك في عقلي. بعد قليل اضطرت للذهاب فأقفلت الخط واتجهت الي المنزل.

انتهت علاقتي برانيا سريعا استطاعت شهيرة ان تحتل عرشها المتزعزع في يسر شديد ففي الأسبوعين التاليين تحدثت وشهيرة ربما عشرون مرة او أكثر. المرأة لا تمل تقريبا من البقاء معي على الخط. أدهشتني عندما استيقظت بعد ليلة طويلة من تبادل الأحاديث في الهاتف ثم استغرقت في النوم مرهقا ويبدو أنى نسيت أن اغلق سماعة الهاتف فوجدتها مازالت هناك. تناديني بصوت خفيض. وكل هذا يأتي في جانب. وقدرتها على طرح المواضيع ومناقشتها في جانب آخر. الغريب في الأمر أنى لم أمل أحاديثها تلك. تحدثنا تقريبا في كل شيء في الدراسة والعمل والخيرات الشخصية والزواج والطلاق وحتى العلاقات الحميمة. أزالت هي الحاجز الذي يكون بين الاغراب في بعد مكالمتها بدقائق وان كنت اشك انه كان هناك حاجز من الاساس فأنا مثلها استمتع بتلك المهاتفة التي تملأ وقتي بجو البهجة بخلاف قدرتي على تخيل ما اسمع مما يمنحني عالم اخر اعيش فيه منسوب لإنسان غيري. في إحدى الليالي حكت لي عن زوجها الاول وكيف تعرفت عليه في محطة المترو بالعاصمة بالأحرى كيف تعرف هو عليها وكيف صدته فتتبعها لبيتها ثم طرق بابهم مباشرة ليسأل عن والدها ليتقدم لخطبتها. في الحقيقة سخرت كثيرا من تلك الحكاية الطفولية وذكرتني بهذا الفيلم المشهور عن الرجل الذي تتبع امرأة ليطلب يدها من زوجها الذي اوسعه ضربا وربطه في رجل الطرابيزة بحسب الاغنية المشهورة. يبدو أن هذا هو أمل كل امرأة ان تجد من يتيم بها لحد الجنون من النظرة الأولي. وبقدر ما تحمله هذه الفكرة من السطحية إلا انه امر وارد الحدوث.. ومن انا حتى احكم على تلك المواقف وأنا الذي سقطت من قبل في شرك الجمال غير مرة. واجهتها وقتها أن ما تقوله لي يبدو حكاية خيالية. فقالت لي في هدوء.

- حامد من تظن أني اشبه من المشاهير..

فقلت بسرعة

- اعذريني فأنا لا اتابع التلفاز ومعرفتي بهم قليلة لحد كبير..

فقالت في هدوء

- حسنًا إني قريبة الشبه للغاية من مطربة حديثة وذكرت اسمها القصير..

خبطت جبهتي في عنف.. مستحيل.. تلك المطربة التي تقول انها تشبهها.. أنها فاتنة الجمال.. سكت لثواني فأردفت.

- لا تصدقني.. حسنا من حقك.. ولكني سأثبت لك ذلك قريبا جدا..

قلت في حرج هذه المرة

- ولكن.. شهيرة ما الذي يدفع امرأة في جمالك ان تعاكس الناس بالهاتف لتملئ وقت فراغها. يمكنك بسهولة ان تختاري رجلا أو حتى ان تسمحي لرجل ليختارك وتقضي معه الوقت الذي تتمنيه..

ظننتها ستغضب من صراحتي لكنها فاجأتني بضحكة صافية وهي تقول

- على الرغم مما لمست في حديثك من حكمة وعمق إلا أنك لم تصب الهدف هذه المرة يا عزيزي.. إلا تظن أنى تعرفت الي الكثير من الرجال.. لكن لا.. لم يعجبني أحدهم حتى الآن وصدق او لا تصدق فأنا أرتاح في الحديث معك على الهاتف.. ويمكنني ان ابقي كذلك للأبد إن سمحت لي..

كان دوري لأعتذر عن صراحتي.. فقالت هي في إصرار

- لا ليس بعد.. لا تعتذر الآن سياتي الوقت المناسب..

بعدها أعلنت عن رغبتي في النوم فوافقت فورا في غرابة. وضعت السماعة واستغرقت في النوم فورا... في اليوم التالي وصلت الي عملي متأخرا لنصف الساعة أو يزيد...وبمجرد أن جلست على مكتي رن جرس الهاتف أجبت متوقعا مديري المباشر يسألني عن سر تأخيري لكني فوجئت بصوتها ناعما يقول

- صباح الخير حامد..

هتفت رغما عني..

- ماذا؟؟ ك..ك.. كيف عرفت هذا الرقم؟!! سمعت ضحكتها وهي تقول

- لا تشكك في قدراتي هكذا.. فقد قلت لي عرضا أثناء حديثنا.. أنك تعمل في شركة للمنتجات الغذائية في المدينة الساحلية ومقرها في الميدان الكبير.. فلم يكن مني إلا ان أمسكت دليل الهاتف وجربت مهاتفة كل الشركات التي تنطبق عليها المواصفات حتى تلقيت ردا من إحدى السكرتيرات بان حامد ليس على مكتبه ربما يصل بعد دقائق. فعدت أتصل بعد قليل وها أنا ذا أكلمك..

اندهشت لإصرار تلك المرأة وان اعجبني ان تنفق من وقتها الكثير فقط لتكلمني. بعدها تعللت باني لابد ان اتابع عملي.. فقالت

- فقط ابقني على الخط..

فرددت قاطعا..

- لا يمكن.. الخط خاص بالشركة ولا اريد ان ابقيه منشغلا كل الوقت.. 

قالت متوسلة

- إذاً سأكلمك كل ساعة ولو لخمس دقائق..

قلت قد بدا صوتي متخاذلا

- حسنا كل ساعتين او ثلاث حتى لا اثير انتباه باقي الزملاء..

سمعتها تضحك جذله وهي تقول

- حسنا حسنا.. وداعًا الآن وأغلقت الخط..

اندمجت في عملي وحافظت هي على وعدها فلم تتصل الا عدة مرات متفرقة حتى انتهي اليوم.. في الايام التالية طفقت شهيرة تسألني بدقة عن ملامحي وملابسي وغيرها من الاسئلة التي بدت لي غريبة لكني خمنت انها ربما ترسم لي صورة ذهنية كتلك التي رسمتها لها حين اخبرتني انها تشبه المطربة المشهورة. كان اليوم التالي ممطرًا وقد تراكمت السحب فوق صفحة البحر بلونها الرمادي الممتزج بالابيض الشاهق وبرغم ان هذا الجو يحرك في قلبي الشجن إلا انه يشعرني بصفاء في روحي. وبينما اتجنب برك المياه في الطريق واشاهد الناس يحتمون عند مداخل البنايات من هطول المطر وعند بوابة الشركة لاحظت تلك المراءة التي تعاين الاحذية عند المتجر الملاصق لمدخل مبني الشركة. يا إلهي.. هل هناك بشر بهذا الجمال.. بشرة بيضاء صافية وشعر كستنائي منسدل وتنورة طويلة هفهافة.. لم اطل النظر نحوها وإن بهرتني ملامحها حقا.. صعدت السلم راجلا لتعطل المصعد.. وبينما أدخل المكتب لاهثا رن جرس الهاتف فرددت بسرعة

- آلو.. مين..

جاءني صوت شهيرة على الهاتف ضاحكا.

- تأخرت على العمل.

فقلت لها ضاحكا انا الاخر..

- يمكنك ان تقولي ما يحلو لك فانت تحت اغطيتك تنامين في سريرك وأنا اسير تحت المطر..

فضحكت ضحكة قصيرة.. وقالت

- أتظن ذلك. لقد حدثتني كثيرا عن تقديرك لجمال النساء ولكني لم أكن اعلم ان لك عينين زائغتين ايضا..

ألجمت الدهشة لساني. ماذا تقول تلك المجنونة.. وكيف عرفت أني أمعنت النظر في المرأة الجميلة عند المدخل.. هذا مستحيل.. هل هناك من يخبرها بأمري...كيف...؟ هل تكون حضرت إلى الإسكندرية.. وإن كان فكيف عرفت مكان الشركة ومتي وصلت من العاصمة.. هل تكون هي ذاتها المرأة الجميلة التي عاينتها وانا ادخل البناية؟ لم أدرِ ماذا اقول وضعت السماعة ونزلت السلالم ثلاثا حتى وصلت لبوابة المبني.. خرجت بسرعة انظر يمينا ويسارا.. لم اجدها. فضربت بيدي على جبهتي ألعن سذاجتي التي جعلتني اظن انها هي الفاتنة التي كانت قريبة من مدخل البناية عند دخولي وعدت نحو المدخل مبتسما فوجدت نفس المرأة تقف في مدخل المبني تنظر نحو عيني مباشرة نظرت نحوها وقلت محرجا

- شهيرة؟؟

عبست المراءة في وجهي وهي تقولي..

- شهيرة من؟؟ ماذا تريد يا استاذ؟؟

اعتذرت وقد ملئني الحرج وتمنيت ان تبلعني الارض واختفي من امامها.. وبينما اتجه للسلالم صاعدا سمعت ضحكة قصيرة خلفي وصوت تلك الفاتنة يقول..

- على الرغم من أني أحب صوتك في الهاتف ولكني احببته أكثر عندما رأيتك..

توجهت نحوها مباشرة وامسكت بيديها.. وانا اقول.

- كنت متأكدا.. كنت متأكدا..

كررتها عدة مرات.. فاتسعت ابتسامتها وهي تقول

- لم يكن هذا حالك حينما عبست في وجهك منذ قليل..

امسكت طرف يديها ولفتتها حول نفسها مصفرا رغما عني.. وقلت منبهرًا..

- ما هذا الجمال يا شهيرة وكيف تستطيعين ان تسيري في الشارع ولا يتبعك كل المفتونين..

قالت ضاحكة

- ومن قال لك انهم لا يفعلون..

قلت متحرجا..

- وماذا الآن..

قالت في هدوء

- لا تقلق لن اعطلك عن العمل.. إن اسرتنا تملك شقة بالحي السياحي سأذهب الي هناك الان. قابلني عند الرابعة في عند بوابة السفارة الغربية..

قلت بسرعة

- أعرفها..

قالت وهي تنظر لعيني مباشرة

- لا تتأخر فسأنتظرك.

قلت لها وانا مازالت الدهشة تعقد لساني

- وانا أيضًا منتظر منذ الآن

ضحكت واقتربت من وجهي فظننت انها ستقبل خدي فهمست في اذاني..

- "انا مبسوطة اوي إني عجبتك"..

دغدغتني العبارة فاستندت على الحائط وتوجهت هي نحو الشارع وتابعتها بعيني حتى ابتعدت...

بعد عدة ساعات وبينما انا متجه إلى بوابة السفارة الغربية رأيتها في انتظاري ويبدو ان السماء قد رقت لهذا الجمال فقررت سحب ديسمبر الرمادية أن تزيح فيما بينها مكانا تسطع فيه أشعة شمس الشتاء الدافئة وقد ألقت أشعة الغروب على شعرها الكستنائي لون ذهبي جعلها اشبه بواحدة من ملهمات زيوس الثلاثة وقد وقفت قبالة الطريق المؤدي للكورنيش ترنو ببصرها نحو الأفق. حييتها مبتسما فبادلتني الابتسامة وفورًا تأبطت ذراعي وهي تقول في حماس.

- صحيح أنك أخبرتني عن حبك للمدينة الساحلية في الشتاء ولكن هذا الجمال لا أستطيع أن أصفه.

بينت لها أن صخب الصيف قد يبدو لطيفا في ظل الاجتماع العائلي ولكن الشتاء يبدو مناسبًا أكثر للانفراد بحبيب أو حتى للوحدة وعزف ألحان للشجن. ضحكت وقالت.

- إذا فهو الاختيار الأول.

نظرت لها مستفهما. فأشاحت بوجهها ناحية الشارع الواسع مشيرة للتاكسي فتوقف. ركبت وهي تقول للسائق في تلقائية على وجهتنا. بعدما تحركت السيارة سألتها.

- إلى اين؟!

قالت بسرعة.

- أرجو ان تقبل دعوتي للغداء في مطعم البهو.

قلت مبتسما.

- أنت ضيفتي يا شهيرة. فوفري عليك هذا الكلام. لن أقبل هذا العرض ابدًا.

وبينما توقف السائق أمام المطعم نزلنا. نقدته اجرته ثم توجهت واياها لطاولة مناسبة تطل علي البحر. جلسنا وطلبنا بعض الطعام. وهي تبدو جذلة سعيدة بكل ما تراه بدأت تسرد لي حكايات عن المرات العديدة التي زارت فيها الاسكندرية منذ طفولتها وحتى وقت قريب. هالتني كمية النشاط التي تتمتع بها هذه المرأة. قلت لها في فضول.

- شهيرة أستطيع ان أؤكد إني احسدك على هذا النشاط.

ضحكت ضحكتها القصيرة المميزة واندمجت في الاكل بعد الطعام سألتها عن ابنتها فقالت

- انها مع والدتها

وحين سألتها عما قالت لوالدتها حين قررت السفر قالت في هدوء

- حامد ارجوك انس هذا الامر الآن اننا سويا الا يكفيك هذا

قلت بصدق

- بلي يكفيني ويزيد.

بعدما انتهينا من الطعام انتقلنا إلى شرفة خارجية وجلسنا يلفح رذاذ البحر وجوهنا. طلبنا مشروبين ساخنين وطفقت اتأملها بينما اراحت ظهرها على المقعد المريح. ثم قالت في خفوت.

- حامد لما تظن اننا نعيش في هذه الدنيا؟

ابتسمت رغما عني وانا أقول

- تسأليني كأني أنا من خلقت الكون. هذا السؤال أزلي وحتى الآن لا أحد يستطيع أن يجيب عنه إجابة شافية.. كل من يتعرض لإجابته يحاول أن يضع إجابة السؤال حسب وجهة نظره هناك من يقول اننا نعيش للعبادة ومن يقول نعيش لنعمر الدنيا وأخر يقول إن الأمر برمته صدفة وعلى هذا الحال كل واحد يقول ما يجده مناسبًا له.

قالت بنفس الهدوء.

- سأخبرك يا حامد ما سبب وجودنا.

قلت مبتسما

- لماذا نعيش يا فيلسوفة العصر والأوان.

ضحكت وفهي تقول

- نعيش لنحب.

صمت للحظة متيحا لها الفرصة لتستطرد ففعلت وهي تقول.

- تخيل لو لم نكن نحب لو لم تكن تلك العواطف داخلنا كنا سنعيش كالحيوانات تمامًا نأكل ونشرب وننام وننجب طبعا.

وقالت الكلمة الأخيرة واتبعتها بضحكة ماجنة اعجبتني ثم أكملت.

- العواطف هي الشيء الوحيدة الذي يربطنا بضميرنا. بمعني أنه من الممكن مثلا تشعر بالكره تجاه مكان ما ويضايقك وجودك فيه وفجأة تقابل إنسانة تهتم لأمرها في ذات المكان فيتحول كل اهتمامك وتفكيرك نحو هذه المرأة وتنسي مللك وزهدك في المكان وغيرها من المشاعر وينصب كل تركيزك وتفكيرك عليها أليس هذا دليلا على ان الحب هو ما يحركنا.

قلت لها مؤكدا على كلامها.

- حدث لي هذا غير مرة وأظن ان عندك حق بنسبة كبيرة لكن المشاعر ليست اختيارية يا شهيرة لذا يكون من الصعب جدا ان نصفها بأنها سبب الحياة فمن الممكن للإنسان أن يعيش عمره كله بدون ان يجد الانسان الذي يضغط على زر مشاعره فيفتح أبوابه ويخرج مشاعره للنور...

قالت وهر ترخي رأسها للوراء

- هل تعرف ان هذا تحديدا ما كنت افعله وأنا اتصل بالأرقام بعشوائية. كنت أفعلها أملا في ان أجد هذا الانسان.

أجبت مصرا.

- لكن هذا حظ ليس إلا.. وإن كان من دواعي سروري أنى كنت صاحب هذا الحظ.

قالت مصرة

- حسنًا لن أختلف معاك في هذه النقطة لكن لا تظن أن أيا من كان سيرد على مكالمتي سيكون مثلك. لو لم ارتح لك واشعر بتميزك لم أكن لأستمر في الحديث إليك أو حتى أتي من العاصمة للمدينة الساحلية لأراك.

هززت رأسي موافقا وانا أقول.

- كل تلك بالنسبة لي تفاصيل يا شهيرة المهم اننا الآن سويا.

نظرت في عيني وسألتني

- سترافقني للبيت اليوم؟

اتسعت عيناي اندهاشا وانا أقول

- اذهب معكي للبيت. أين. العاصمة؟

ضحكت جذلة وهي تردف

- لا يا ذكي البيت أي الشقة التي في الحي السياحي.

قلت لها بهدوء

- لا اظن يا عزيزتي فأنا أخاف عليك مني.

وكأنها توقعت الإجابة فضحكت وهي تقول

- حامد ارجوك أظن أنه أنت من يجب ان يخاف عليك مني..

وضحكت ضحكة صافية. قمنا فنقدت النادل الحساب وتأبطت ذراعي والتصقت بي تماما طلبا لدفء جسدي ثم مشينا قليلا على الكورنيش في النهاية اوقفنا تاكسي متجهين للحي السياحي وبينما تتعانق يدانا في الكرسي الخلفي للتاكسي قالت لي

- أتعرف يا حامد أنى لم أكن متأكدة من أي شيء عندما جاءت للمدينة الساحلية لم أكن أعرف أني سأقابلك لم أكن أعرف أني سأحب مظهرك حتى أنني كنت غير متأكدة من أن مظهري وملامحي ستعجبك لم أكن اعرف أي شيء. كانت مغامرة لكني احبت ان أقوم بها وأنا سعيدة جدا الآن أني بجانبك.

أعجبتني طلاقة حديثها وشعورها العاطفي الدافئ وخرجنا من التاكسي مباشرة نحو البناية والمطر يبلل رؤوسنا طلبنا المصعد وانتظرنا لبرهة وبينما ركبنا وضغطت زر الدور الحادي عشر بمجرد دخولنا المنزل التصقت بي من الخلف محتضنة اياي فارتخت عضلات جسدي فجاءة وانا أعود للوراء فأجلستها ثم توجهت نحو ما ظننت انه الحمام بحثا عما اجفف به رأسي ووجهي. وحين خرجت وجدت شهيرة تحمل حقيبة كانت موضوعة على السفرة الخارجية وتدخل بها نحو إحدى الغرف. حين خرجت اتجهت للمطبخ وهي ترتدي ملابس بيتيه مريحة وانيقة في ذات الوقت وسألتني.

- اعد لك طعام. لقد احضرت بعض الطعام حين وصلت بعدما قابلتك.

قلت مندهشا

- وتلك الحقيبة لماذا لم ارها معك صباحا.

قالت ضاحكة  

- كانت معي ولكنك بعيونك الزائغة لما تنظر الا الي مؤخرتي.

واتبعتها بضحكة ماجنة فضحكت وقلت

- بلي احضري شيئا لناكل.

لم أكن جائعًا حقيقة ولكني طلبت منها ذلك لأستجمع شتات أفكاري. بعدما اكلنا دار الحديث بيننا في شتى الأمور فقلت لها

- ان ما نفعله الان يشبه تماما حوارنا على الهاتف

قالت بعفوية

- وهل أستطيع في الهاتف ان اجلس بجوارك هكذا.

كان الوقت بصحبة شهيرة كالحلم فالفتاة تجيد مهارات عديدة كان إعداد الطعام احداها وسألت نفسي وبشدة ما الذي يدفع زوج تلك المراءة ان يتركها وبينا هي تجلس على رجلي قلت لها

- لقد كنت أحاول ان اتجنب هذا السؤال منذ تعرفت عليكِ. لكن لماذا تطلقت يا شهيرة؟ وخاصة أنك جميلة للغاية ولاحظت من كلامك قدر ثقافتك بل وخبرتك في الحياة بخلاف ان طعامك لذيذ وتجيدين الرقص كذلك وهي من أعظم مهاراتك ان اردت رأيي.

ضحكت كعادتها وهي ترسل شعرها للوراء قالت

- حامد كم تظن عمري في رأيك يا عزيزي.

قلت متسرعا

- ثمانية وعشرون.

عبست وقالت

- انتظر

قفزت من فوق قدمي واتجهت نحو حقيبتها واخرجت بطاقة شخصية وضعتها بين يدي. فوجئت انها لم تتعدَ الثالثة والعشرين. قلت مندهشًا

- ولكن متي؟؟ متي تزوجت ومتي انجبت ومتي تركتِ زوجك.

قالت مفسرة

- يا عزيزي لقد منحني الله ما تري من الهيئة وكنت متعجلة. متعجلة جدا في الواقع اعتادت امي ان تقول لابي رحمه الله أنك لن تتعب في زواج تلك البنت وقد كان. حينما تقدم لي زوجي السابق كان مهندسا يعمل في خليج السويس. راءاني في محطة المترو فتقدم لخطبتي. ولأن كل ما دفعه نحوي هو شكلي الخارجي. بدأت مشاكلنا بعد فترة قصيرة جدا من الزواج. فالرجل لا يقرأ ولا يهتم الا بالمباريات الكروية والطعام والعلاقة الحميمة من وجهة نظره هي وسيلة لإنجاب الأطفال. كان يدفعني للجنون وتعددت الخلافات ولم ننجح في اكمال نقاش واحد لنهايته ربما تكون قد هدأت الأمور بيننا قليلا بعد ميلاد ابنتي لكني لم اطق هذه الحياة وطلبت منه الطلاق فأبي في البداية. حرمته الطعام فالعلاقة الحميمة فالكلام حتى رضخ. وقبل ان تسأل لا لست سعيدة بهذه النتيجة لكنها بدت حتمية لسيارة مندفعة نحو جرف بدون فرامل لابد ان تسقط وقد كان.

سألتها وان اتخيل المشهد الذي انهت به حوارها.

- ولكنك لست في تلك السيارة وحدك يا شهيرة ابنتك معك ووالدتك وكل من يهتم لأمرك.

نَظرت للسقف وقالت.

- حامد ارجوك انس هذا الأمر الان واعدك ان نتحدث فيه بكل التفاصيل في وقت اخر

ومرت ليلتنا كما تمنيناها وكما يقول أبو الطيب "لياليَّ بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل" ولكن ليلنا الطويل مر في بهجة لم اتخيل انها يمكن ان تحدث. استيقظت قبلي فأعددت إفطارا واكلنا ثم قالت انها يجب ان تعود للعاصمة اليوم فأوصلتها حتى ركبت القطار وتابعته بعيني حتى غاب في الأفق

***