Saturday, December 31, 2022

وجوه.. رواية في حلقات منفصلة (الحلقة الثامنة)

 

ألا يوجد هاتف عمومي واحد يعمل في هذا الشارع اللعين. هتفت بالعبارة في سخط وأنا أتقافز كالبجعة فوق برك المطر المتناثرة على الرصيف بين كبائن "الميناتل" المنتشرة بطول الشارع الرئيسي. أخيرًا وجدت واحدة تعمل دسست راسي تحت سقفها المنخفض احتمي به من المطر ثم طلبت الرقم في عصبية. ثوان من الانتظار بدت كدهر ثم انساب الصوت الرقيق في اذني فتحول المطر الي رذاذ منعش والماء المنتشر بطول الشارع الي هبة من الطبيعة تغسل بها وجه الارض العكر. بعد برهة فاجأتني.

- سأغلق الخط الآن. مضطرة.. بابا قادم.. انتظر أمام الكابينة سأكلمك مرة اخري.

اغلقت الخط ساخطًا شاعرًا بقسوة البرد على ظهري فازداد التصاقي بالكابينة كأنها تمنحني الدفء. تقدم مني شاب بدا كأنه يريد استعمال الكابينة فرفعت السماعة فورا وانطلقت أحدث شعبان في موضوع الأرض التي سنقتسمها بعد ان تدخل في كوردون المباني. وقف الشاب برهة يحاول أن يمد عينية للشاشة ذات السطر الواحد التي تظهر ما تبقى من رصيد لدي.. عرفت ذلك بنظرة جانبية له فملئت محيط الكابينة بجسدي رافعًا صوتي لمستوي أعلي بأنه لا يجوز ان يقتسم شعبان معي العمولة بنسبة غير النصف بالنصف كما اتفقنا وليس باي نسبة اخري أتبعت الحديث بحلف بالطلاق وعليَّ الحرام من بيتي عدة مرات وان كنت لا أعرف حقيقة ماذا تعني عبارة على َّ الحرام من بيتي لكنها بدت مقنعة جدا من وجهة نظري.. وقف الشاب دقيقة يختبر جديتي رفعت صوتي أكثر ثم احسست به ينصرف تحت وطأة المطر.. بعد ثوان رن هاتف الكابينة العمومي مرة اخري.. حمدا لله انه دق بعد رحيل الشاب والا لكان الموقف محرج للغاية.. سألتها بدون ان أفكر..

- هل انصرف بابا؟! ..

رد علي صوت ضاحك لم أميزه..

- نعم انصرف من فترة طويلة في الواقع توفي منذ اربعة سنوات.

تبعت تلك العبارة ضحكة طويلة.. ارتبكت وانا أرد..

- ألو رانيا ماذا بك..

رد على الصوت الانثوي الذي بدأت اتبين انه ليس صوت رانيا بالتأكيد..

- أنا لست رانيا أنا شهيرة.. آسفة يبدو أنى طلبت رقم خاطئ.

اجبت في سرعة هذه كابينة هاتف "ميناتل" عمومية. ردت باستغراب.

- ولماذا ترد على كابينة هاتف عمومية..

سرحت في السؤال رغمًا عني. كنت استمتع بالحديث مع الغرباء في الهاتف. تخيل معي.. شخص لا تعرفه ولا يعرفك..  لا يربطك به اي شيء في الواقع. تستطيع ان تشاركه افكار وهموم وحتى جرائم ارتكبتها بدون ان يحكم عليك او يحاسبك.. كما في ذلك البرنامج الذي انتشر مؤخرًا "اعترافات ليلية" مجرد أشخاص عشوائيين يتصلون بمذيعة البرنامج يتكلمون في أمورهم فيما يشبه الاعتراف ويجب ان أقر ان البرنامج كان له صديً رهيب وانتشر امره في كافة اوساط المجتمع. تخيل شخص مجهول كل ما بينكم هو ذلك الخط الكهربائي المعد للتوقف بمجرد ضغطة زر من احدكما. بالطبع هذا كله كان هذا قبل اختراع المحمول اللعين الذي جعل التعرف الي مكانك حتى في دورة المياه امر ممكن. جاء صوتها في النهاية لينتزعني من تلك الافكار..

- ألو.. هل ما زلت معي.

اجبتها جادًا..

- انا في انتظار مكالمة من صديقتي..

سألتني مباشرة وبطريقة بدت عفوية تمامًا..

- حلوة.؟

- نعم!!

- حلوة صديقتك دي؟

توقفت برهة وكأنما فاجئني السؤال ثم رددت..

- بالتأكيد.

سألتني مرة اخري..

- لماذا ارتبكت قبل ان ترد؟

- هل انت طبيبة نفسية..

- في الواقع لا لكن اظن أنك لست معجب بمظهر صديقتك بصورة كبيرة.

تباً لصوتي الذي يحرمني نعمة الكذب ويفضحني عندما أبدل مشاعري..

- شيء غريب جدا ان تحكمي على رأيي من صوتي.  

- في الحقيقة لا اعرف ما هو السبب ولكني أحس بالأصوات بصورة مختلفة.

صمتت برهة ثم قالت..

- أنا لم أكن اعرف هذا الرقم قبل ان أحدثك.. لقد طلبته عشوائيا لأني اشعر بملل رهيب.... دعني أقدم نفسي لك كما يجب فربما ينقطع الاتصال في اي وقت.. انا شهيرة دبلوم تجارة من العاصمة اعيش مع ماما وبنتي الصغيرة وانت؟؟

إذا فانتِ من محبي الحديث مع الغرباء مثلي يا لها من مصادفة. كانت دعوة لمشاركة المعلومات وكما قلت لك سلفًا.. يسبب لي هذا الامر نوع من النشوة.. واظن انه ليس أمرًا خاصًا بي فقط.. خاصة مع الانتشار العالمي لموضوع المعاكسات التليفونية قبل اختراع اظهار الرقم اللعين. اجبت مباشرة هذه المرة..

- حامد محاسب استيراد وتصدير اعيش منفردا في المدينة الساحلية.

- ما سبب الضوضاء التي في خلفية كلامك يا حامد.

- في الحقيقة لا اعرف اي ضوضاء تقصدين. لو كنتي تشيرين إلى الهاتف فهذا طبيعي.. اما لو كنتي تقصدين المطر فهو ينهمر بغزارة..

- مطر الله أحب المطر جدا.. لا تمطر هنا الا نادرا.. وانت تقف في هذا الجو لتكلم صديقتك. شيء رومانسي جدًا.

- قد يكون هذا هو السبب الذي دفعني لأكلمها. لكننا معتادان على تبادل الحديث في هذا الوقت من الليل..

- محظوظة هي هذه الفتاة.. علي كل حال هل تعرف اني احب المدينة الساحلية جدا ولابد ان ازورها كل سنة مرة على الاقل..

- نحن كذلك نحبها لكنها تكون أجمل في الشتاء.

- فعلا كثيرين وصفوها بانها الاجمل في هذا الوقت.

- ربما يجب عليك ان تزوريها في الشتاء لتستمتعي بالمدينة والمطر في نفس الوقت. ولكن هل يمكن ان اغلق الخط الان فقد تتصل صديقتي في اي وقت...

- حامد..

- نعم..

- ممكن أطلب منك طلب؟

- تفضلي.. 

- ممكن رقم هاتفك..

- ليس عندي مانع.. تفضلي.. خمسين ستين سبعين تمانين خمسة وتمانين.. بالمناسبة لا أكون موجودًا في البيت قبل الساعة السابعة مساءا. فانا أنهي عملي في الخامسة وعادةً أخرج مع اصدقائي بعد العمل وهناك امر أخر للأسف.  الخط الذي في البيت لا يعمل لأني لم أدفع الفاتورة حتى الان بسبب ظروف مادية.

- لا تقلق سوف اتصل بك على امل أنك تكون قد دفعت الفاتورة ولعلي أجدك لأتكلم معك عندما احتاج أن اتكلم مع صديق انت تبدو رجل مهذب من صوتك واظن أنك لن تمانع..

- ابدًا بالعكس.. تفضلي في اي وقت.

- حسنًا سأتركك الآن فربما اتصلت صديقتك والخط مشغول فتنزعج ان تظن أنك رحلت. مع السلامة.

- مع السلامة..

بعد عدة دقائق رن الهاتف.. تحدثت الي رانيا بنصف تركيز.. فقد كانت المحادثة السابقة مازالت تتحرك في عقلي. بعد قليل اضطرت للذهاب فأقفلت الخط واتجهت الي المنزل.

انتهت علاقتي برانيا سريعا استطاعت شهيرة ان تحتل عرشها المتزعزع في يسر شديد ففي الأسبوعين التاليين تحدثت وشهيرة ربما عشرون مرة او أكثر. المرأة لا تمل تقريبا من البقاء معي على الخط. أدهشتني عندما استيقظت بعد ليلة طويلة من تبادل الأحاديث في الهاتف ثم استغرقت في النوم مرهقا ويبدو أنى نسيت أن اغلق سماعة الهاتف فوجدتها مازالت هناك. تناديني بصوت خفيض. وكل هذا يأتي في جانب. وقدرتها على طرح المواضيع ومناقشتها في جانب آخر. الغريب في الأمر أنى لم أمل أحاديثها تلك. تحدثنا تقريبا في كل شيء في الدراسة والعمل والخيرات الشخصية والزواج والطلاق وحتى العلاقات الحميمة. أزالت هي الحاجز الذي يكون بين الاغراب في بعد مكالمتها بدقائق وان كنت اشك انه كان هناك حاجز من الاساس فأنا مثلها استمتع بتلك المهاتفة التي تملأ وقتي بجو البهجة بخلاف قدرتي على تخيل ما اسمع مما يمنحني عالم اخر اعيش فيه منسوب لإنسان غيري. في إحدى الليالي حكت لي عن زوجها الاول وكيف تعرفت عليه في محطة المترو بالعاصمة بالأحرى كيف تعرف هو عليها وكيف صدته فتتبعها لبيتها ثم طرق بابهم مباشرة ليسأل عن والدها ليتقدم لخطبتها. في الحقيقة سخرت كثيرا من تلك الحكاية الطفولية وذكرتني بهذا الفيلم المشهور عن الرجل الذي تتبع امرأة ليطلب يدها من زوجها الذي اوسعه ضربا وربطه في رجل الطرابيزة بحسب الاغنية المشهورة. يبدو أن هذا هو أمل كل امرأة ان تجد من يتيم بها لحد الجنون من النظرة الأولي. وبقدر ما تحمله هذه الفكرة من السطحية إلا انه امر وارد الحدوث.. ومن انا حتى احكم على تلك المواقف وأنا الذي سقطت من قبل في شرك الجمال غير مرة. واجهتها وقتها أن ما تقوله لي يبدو حكاية خيالية. فقالت لي في هدوء.

- حامد من تظن أني اشبه من المشاهير..

فقلت بسرعة

- اعذريني فأنا لا اتابع التلفاز ومعرفتي بهم قليلة لحد كبير..

فقالت في هدوء

- حسنًا إني قريبة الشبه للغاية من مطربة حديثة وذكرت اسمها القصير..

خبطت جبهتي في عنف.. مستحيل.. تلك المطربة التي تقول انها تشبهها.. أنها فاتنة الجمال.. سكت لثواني فأردفت.

- لا تصدقني.. حسنا من حقك.. ولكني سأثبت لك ذلك قريبا جدا..

قلت في حرج هذه المرة

- ولكن.. شهيرة ما الذي يدفع امرأة في جمالك ان تعاكس الناس بالهاتف لتملئ وقت فراغها. يمكنك بسهولة ان تختاري رجلا أو حتى ان تسمحي لرجل ليختارك وتقضي معه الوقت الذي تتمنيه..

ظننتها ستغضب من صراحتي لكنها فاجأتني بضحكة صافية وهي تقول

- على الرغم مما لمست في حديثك من حكمة وعمق إلا أنك لم تصب الهدف هذه المرة يا عزيزي.. إلا تظن أنى تعرفت الي الكثير من الرجال.. لكن لا.. لم يعجبني أحدهم حتى الآن وصدق او لا تصدق فأنا أرتاح في الحديث معك على الهاتف.. ويمكنني ان ابقي كذلك للأبد إن سمحت لي..

كان دوري لأعتذر عن صراحتي.. فقالت هي في إصرار

- لا ليس بعد.. لا تعتذر الآن سياتي الوقت المناسب..

بعدها أعلنت عن رغبتي في النوم فوافقت فورا في غرابة. وضعت السماعة واستغرقت في النوم فورا... في اليوم التالي وصلت الي عملي متأخرا لنصف الساعة أو يزيد...وبمجرد أن جلست على مكتي رن جرس الهاتف أجبت متوقعا مديري المباشر يسألني عن سر تأخيري لكني فوجئت بصوتها ناعما يقول

- صباح الخير حامد..

هتفت رغما عني..

- ماذا؟؟ ك..ك.. كيف عرفت هذا الرقم؟!! سمعت ضحكتها وهي تقول

- لا تشكك في قدراتي هكذا.. فقد قلت لي عرضا أثناء حديثنا.. أنك تعمل في شركة للمنتجات الغذائية في المدينة الساحلية ومقرها في الميدان الكبير.. فلم يكن مني إلا ان أمسكت دليل الهاتف وجربت مهاتفة كل الشركات التي تنطبق عليها المواصفات حتى تلقيت ردا من إحدى السكرتيرات بان حامد ليس على مكتبه ربما يصل بعد دقائق. فعدت أتصل بعد قليل وها أنا ذا أكلمك..

اندهشت لإصرار تلك المرأة وان اعجبني ان تنفق من وقتها الكثير فقط لتكلمني. بعدها تعللت باني لابد ان اتابع عملي.. فقالت

- فقط ابقني على الخط..

فرددت قاطعا..

- لا يمكن.. الخط خاص بالشركة ولا اريد ان ابقيه منشغلا كل الوقت.. 

قالت متوسلة

- إذاً سأكلمك كل ساعة ولو لخمس دقائق..

قلت قد بدا صوتي متخاذلا

- حسنا كل ساعتين او ثلاث حتى لا اثير انتباه باقي الزملاء..

سمعتها تضحك جذله وهي تقول

- حسنا حسنا.. وداعًا الآن وأغلقت الخط..

اندمجت في عملي وحافظت هي على وعدها فلم تتصل الا عدة مرات متفرقة حتى انتهي اليوم.. في الايام التالية طفقت شهيرة تسألني بدقة عن ملامحي وملابسي وغيرها من الاسئلة التي بدت لي غريبة لكني خمنت انها ربما ترسم لي صورة ذهنية كتلك التي رسمتها لها حين اخبرتني انها تشبه المطربة المشهورة. كان اليوم التالي ممطرًا وقد تراكمت السحب فوق صفحة البحر بلونها الرمادي الممتزج بالابيض الشاهق وبرغم ان هذا الجو يحرك في قلبي الشجن إلا انه يشعرني بصفاء في روحي. وبينما اتجنب برك المياه في الطريق واشاهد الناس يحتمون عند مداخل البنايات من هطول المطر وعند بوابة الشركة لاحظت تلك المراءة التي تعاين الاحذية عند المتجر الملاصق لمدخل مبني الشركة. يا إلهي.. هل هناك بشر بهذا الجمال.. بشرة بيضاء صافية وشعر كستنائي منسدل وتنورة طويلة هفهافة.. لم اطل النظر نحوها وإن بهرتني ملامحها حقا.. صعدت السلم راجلا لتعطل المصعد.. وبينما أدخل المكتب لاهثا رن جرس الهاتف فرددت بسرعة

- آلو.. مين..

جاءني صوت شهيرة على الهاتف ضاحكا.

- تأخرت على العمل.

فقلت لها ضاحكا انا الاخر..

- يمكنك ان تقولي ما يحلو لك فانت تحت اغطيتك تنامين في سريرك وأنا اسير تحت المطر..

فضحكت ضحكة قصيرة.. وقالت

- أتظن ذلك. لقد حدثتني كثيرا عن تقديرك لجمال النساء ولكني لم أكن اعلم ان لك عينين زائغتين ايضا..

ألجمت الدهشة لساني. ماذا تقول تلك المجنونة.. وكيف عرفت أني أمعنت النظر في المرأة الجميلة عند المدخل.. هذا مستحيل.. هل هناك من يخبرها بأمري...كيف...؟ هل تكون حضرت إلى الإسكندرية.. وإن كان فكيف عرفت مكان الشركة ومتي وصلت من العاصمة.. هل تكون هي ذاتها المرأة الجميلة التي عاينتها وانا ادخل البناية؟ لم أدرِ ماذا اقول وضعت السماعة ونزلت السلالم ثلاثا حتى وصلت لبوابة المبني.. خرجت بسرعة انظر يمينا ويسارا.. لم اجدها. فضربت بيدي على جبهتي ألعن سذاجتي التي جعلتني اظن انها هي الفاتنة التي كانت قريبة من مدخل البناية عند دخولي وعدت نحو المدخل مبتسما فوجدت نفس المرأة تقف في مدخل المبني تنظر نحو عيني مباشرة نظرت نحوها وقلت محرجا

- شهيرة؟؟

عبست المراءة في وجهي وهي تقولي..

- شهيرة من؟؟ ماذا تريد يا استاذ؟؟

اعتذرت وقد ملئني الحرج وتمنيت ان تبلعني الارض واختفي من امامها.. وبينما اتجه للسلالم صاعدا سمعت ضحكة قصيرة خلفي وصوت تلك الفاتنة يقول..

- على الرغم من أني أحب صوتك في الهاتف ولكني احببته أكثر عندما رأيتك..

توجهت نحوها مباشرة وامسكت بيديها.. وانا اقول.

- كنت متأكدا.. كنت متأكدا..

كررتها عدة مرات.. فاتسعت ابتسامتها وهي تقول

- لم يكن هذا حالك حينما عبست في وجهك منذ قليل..

امسكت طرف يديها ولفتتها حول نفسها مصفرا رغما عني.. وقلت منبهرًا..

- ما هذا الجمال يا شهيرة وكيف تستطيعين ان تسيري في الشارع ولا يتبعك كل المفتونين..

قالت ضاحكة

- ومن قال لك انهم لا يفعلون..

قلت متحرجا..

- وماذا الآن..

قالت في هدوء

- لا تقلق لن اعطلك عن العمل.. إن اسرتنا تملك شقة بالحي السياحي سأذهب الي هناك الان. قابلني عند الرابعة في عند بوابة السفارة الغربية..

قلت بسرعة

- أعرفها..

قالت وهي تنظر لعيني مباشرة

- لا تتأخر فسأنتظرك.

قلت لها وانا مازالت الدهشة تعقد لساني

- وانا أيضًا منتظر منذ الآن

ضحكت واقتربت من وجهي فظننت انها ستقبل خدي فهمست في اذاني..

- "انا مبسوطة اوي إني عجبتك"..

دغدغتني العبارة فاستندت على الحائط وتوجهت هي نحو الشارع وتابعتها بعيني حتى ابتعدت...

بعد عدة ساعات وبينما انا متجه إلى بوابة السفارة الغربية رأيتها في انتظاري ويبدو ان السماء قد رقت لهذا الجمال فقررت سحب ديسمبر الرمادية أن تزيح فيما بينها مكانا تسطع فيه أشعة شمس الشتاء الدافئة وقد ألقت أشعة الغروب على شعرها الكستنائي لون ذهبي جعلها اشبه بواحدة من ملهمات زيوس الثلاثة وقد وقفت قبالة الطريق المؤدي للكورنيش ترنو ببصرها نحو الأفق. حييتها مبتسما فبادلتني الابتسامة وفورًا تأبطت ذراعي وهي تقول في حماس.

- صحيح أنك أخبرتني عن حبك للمدينة الساحلية في الشتاء ولكن هذا الجمال لا أستطيع أن أصفه.

بينت لها أن صخب الصيف قد يبدو لطيفا في ظل الاجتماع العائلي ولكن الشتاء يبدو مناسبًا أكثر للانفراد بحبيب أو حتى للوحدة وعزف ألحان للشجن. ضحكت وقالت.

- إذا فهو الاختيار الأول.

نظرت لها مستفهما. فأشاحت بوجهها ناحية الشارع الواسع مشيرة للتاكسي فتوقف. ركبت وهي تقول للسائق في تلقائية على وجهتنا. بعدما تحركت السيارة سألتها.

- إلى اين؟!

قالت بسرعة.

- أرجو ان تقبل دعوتي للغداء في مطعم البهو.

قلت مبتسما.

- أنت ضيفتي يا شهيرة. فوفري عليك هذا الكلام. لن أقبل هذا العرض ابدًا.

وبينما توقف السائق أمام المطعم نزلنا. نقدته اجرته ثم توجهت واياها لطاولة مناسبة تطل علي البحر. جلسنا وطلبنا بعض الطعام. وهي تبدو جذلة سعيدة بكل ما تراه بدأت تسرد لي حكايات عن المرات العديدة التي زارت فيها الاسكندرية منذ طفولتها وحتى وقت قريب. هالتني كمية النشاط التي تتمتع بها هذه المرأة. قلت لها في فضول.

- شهيرة أستطيع ان أؤكد إني احسدك على هذا النشاط.

ضحكت ضحكتها القصيرة المميزة واندمجت في الاكل بعد الطعام سألتها عن ابنتها فقالت

- انها مع والدتها

وحين سألتها عما قالت لوالدتها حين قررت السفر قالت في هدوء

- حامد ارجوك انس هذا الامر الآن اننا سويا الا يكفيك هذا

قلت بصدق

- بلي يكفيني ويزيد.

بعدما انتهينا من الطعام انتقلنا إلى شرفة خارجية وجلسنا يلفح رذاذ البحر وجوهنا. طلبنا مشروبين ساخنين وطفقت اتأملها بينما اراحت ظهرها على المقعد المريح. ثم قالت في خفوت.

- حامد لما تظن اننا نعيش في هذه الدنيا؟

ابتسمت رغما عني وانا أقول

- تسأليني كأني أنا من خلقت الكون. هذا السؤال أزلي وحتى الآن لا أحد يستطيع أن يجيب عنه إجابة شافية.. كل من يتعرض لإجابته يحاول أن يضع إجابة السؤال حسب وجهة نظره هناك من يقول اننا نعيش للعبادة ومن يقول نعيش لنعمر الدنيا وأخر يقول إن الأمر برمته صدفة وعلى هذا الحال كل واحد يقول ما يجده مناسبًا له.

قالت بنفس الهدوء.

- سأخبرك يا حامد ما سبب وجودنا.

قلت مبتسما

- لماذا نعيش يا فيلسوفة العصر والأوان.

ضحكت وفهي تقول

- نعيش لنحب.

صمت للحظة متيحا لها الفرصة لتستطرد ففعلت وهي تقول.

- تخيل لو لم نكن نحب لو لم تكن تلك العواطف داخلنا كنا سنعيش كالحيوانات تمامًا نأكل ونشرب وننام وننجب طبعا.

وقالت الكلمة الأخيرة واتبعتها بضحكة ماجنة اعجبتني ثم أكملت.

- العواطف هي الشيء الوحيدة الذي يربطنا بضميرنا. بمعني أنه من الممكن مثلا تشعر بالكره تجاه مكان ما ويضايقك وجودك فيه وفجأة تقابل إنسانة تهتم لأمرها في ذات المكان فيتحول كل اهتمامك وتفكيرك نحو هذه المرأة وتنسي مللك وزهدك في المكان وغيرها من المشاعر وينصب كل تركيزك وتفكيرك عليها أليس هذا دليلا على ان الحب هو ما يحركنا.

قلت لها مؤكدا على كلامها.

- حدث لي هذا غير مرة وأظن ان عندك حق بنسبة كبيرة لكن المشاعر ليست اختيارية يا شهيرة لذا يكون من الصعب جدا ان نصفها بأنها سبب الحياة فمن الممكن للإنسان أن يعيش عمره كله بدون ان يجد الانسان الذي يضغط على زر مشاعره فيفتح أبوابه ويخرج مشاعره للنور...

قالت وهر ترخي رأسها للوراء

- هل تعرف ان هذا تحديدا ما كنت افعله وأنا اتصل بالأرقام بعشوائية. كنت أفعلها أملا في ان أجد هذا الانسان.

أجبت مصرا.

- لكن هذا حظ ليس إلا.. وإن كان من دواعي سروري أنى كنت صاحب هذا الحظ.

قالت مصرة

- حسنًا لن أختلف معاك في هذه النقطة لكن لا تظن أن أيا من كان سيرد على مكالمتي سيكون مثلك. لو لم ارتح لك واشعر بتميزك لم أكن لأستمر في الحديث إليك أو حتى أتي من العاصمة للمدينة الساحلية لأراك.

هززت رأسي موافقا وانا أقول.

- كل تلك بالنسبة لي تفاصيل يا شهيرة المهم اننا الآن سويا.

نظرت في عيني وسألتني

- سترافقني للبيت اليوم؟

اتسعت عيناي اندهاشا وانا أقول

- اذهب معكي للبيت. أين. العاصمة؟

ضحكت جذلة وهي تردف

- لا يا ذكي البيت أي الشقة التي في الحي السياحي.

قلت لها بهدوء

- لا اظن يا عزيزتي فأنا أخاف عليك مني.

وكأنها توقعت الإجابة فضحكت وهي تقول

- حامد ارجوك أظن أنه أنت من يجب ان يخاف عليك مني..

وضحكت ضحكة صافية. قمنا فنقدت النادل الحساب وتأبطت ذراعي والتصقت بي تماما طلبا لدفء جسدي ثم مشينا قليلا على الكورنيش في النهاية اوقفنا تاكسي متجهين للحي السياحي وبينما تتعانق يدانا في الكرسي الخلفي للتاكسي قالت لي

- أتعرف يا حامد أنى لم أكن متأكدة من أي شيء عندما جاءت للمدينة الساحلية لم أكن أعرف أني سأقابلك لم أكن أعرف أني سأحب مظهرك حتى أنني كنت غير متأكدة من أن مظهري وملامحي ستعجبك لم أكن اعرف أي شيء. كانت مغامرة لكني احبت ان أقوم بها وأنا سعيدة جدا الآن أني بجانبك.

أعجبتني طلاقة حديثها وشعورها العاطفي الدافئ وخرجنا من التاكسي مباشرة نحو البناية والمطر يبلل رؤوسنا طلبنا المصعد وانتظرنا لبرهة وبينما ركبنا وضغطت زر الدور الحادي عشر بمجرد دخولنا المنزل التصقت بي من الخلف محتضنة اياي فارتخت عضلات جسدي فجاءة وانا أعود للوراء فأجلستها ثم توجهت نحو ما ظننت انه الحمام بحثا عما اجفف به رأسي ووجهي. وحين خرجت وجدت شهيرة تحمل حقيبة كانت موضوعة على السفرة الخارجية وتدخل بها نحو إحدى الغرف. حين خرجت اتجهت للمطبخ وهي ترتدي ملابس بيتيه مريحة وانيقة في ذات الوقت وسألتني.

- اعد لك طعام. لقد احضرت بعض الطعام حين وصلت بعدما قابلتك.

قلت مندهشا

- وتلك الحقيبة لماذا لم ارها معك صباحا.

قالت ضاحكة  

- كانت معي ولكنك بعيونك الزائغة لما تنظر الا الي مؤخرتي.

واتبعتها بضحكة ماجنة فضحكت وقلت

- بلي احضري شيئا لناكل.

لم أكن جائعًا حقيقة ولكني طلبت منها ذلك لأستجمع شتات أفكاري. بعدما اكلنا دار الحديث بيننا في شتى الأمور فقلت لها

- ان ما نفعله الان يشبه تماما حوارنا على الهاتف

قالت بعفوية

- وهل أستطيع في الهاتف ان اجلس بجوارك هكذا.

كان الوقت بصحبة شهيرة كالحلم فالفتاة تجيد مهارات عديدة كان إعداد الطعام احداها وسألت نفسي وبشدة ما الذي يدفع زوج تلك المراءة ان يتركها وبينا هي تجلس على رجلي قلت لها

- لقد كنت أحاول ان اتجنب هذا السؤال منذ تعرفت عليكِ. لكن لماذا تطلقت يا شهيرة؟ وخاصة أنك جميلة للغاية ولاحظت من كلامك قدر ثقافتك بل وخبرتك في الحياة بخلاف ان طعامك لذيذ وتجيدين الرقص كذلك وهي من أعظم مهاراتك ان اردت رأيي.

ضحكت كعادتها وهي ترسل شعرها للوراء قالت

- حامد كم تظن عمري في رأيك يا عزيزي.

قلت متسرعا

- ثمانية وعشرون.

عبست وقالت

- انتظر

قفزت من فوق قدمي واتجهت نحو حقيبتها واخرجت بطاقة شخصية وضعتها بين يدي. فوجئت انها لم تتعدَ الثالثة والعشرين. قلت مندهشًا

- ولكن متي؟؟ متي تزوجت ومتي انجبت ومتي تركتِ زوجك.

قالت مفسرة

- يا عزيزي لقد منحني الله ما تري من الهيئة وكنت متعجلة. متعجلة جدا في الواقع اعتادت امي ان تقول لابي رحمه الله أنك لن تتعب في زواج تلك البنت وقد كان. حينما تقدم لي زوجي السابق كان مهندسا يعمل في خليج السويس. راءاني في محطة المترو فتقدم لخطبتي. ولأن كل ما دفعه نحوي هو شكلي الخارجي. بدأت مشاكلنا بعد فترة قصيرة جدا من الزواج. فالرجل لا يقرأ ولا يهتم الا بالمباريات الكروية والطعام والعلاقة الحميمة من وجهة نظره هي وسيلة لإنجاب الأطفال. كان يدفعني للجنون وتعددت الخلافات ولم ننجح في اكمال نقاش واحد لنهايته ربما تكون قد هدأت الأمور بيننا قليلا بعد ميلاد ابنتي لكني لم اطق هذه الحياة وطلبت منه الطلاق فأبي في البداية. حرمته الطعام فالعلاقة الحميمة فالكلام حتى رضخ. وقبل ان تسأل لا لست سعيدة بهذه النتيجة لكنها بدت حتمية لسيارة مندفعة نحو جرف بدون فرامل لابد ان تسقط وقد كان.

سألتها وان اتخيل المشهد الذي انهت به حوارها.

- ولكنك لست في تلك السيارة وحدك يا شهيرة ابنتك معك ووالدتك وكل من يهتم لأمرك.

نَظرت للسقف وقالت.

- حامد ارجوك انس هذا الأمر الان واعدك ان نتحدث فيه بكل التفاصيل في وقت اخر

ومرت ليلتنا كما تمنيناها وكما يقول أبو الطيب "لياليَّ بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل" ولكن ليلنا الطويل مر في بهجة لم اتخيل انها يمكن ان تحدث. استيقظت قبلي فأعددت إفطارا واكلنا ثم قالت انها يجب ان تعود للعاصمة اليوم فأوصلتها حتى ركبت القطار وتابعته بعيني حتى غاب في الأفق

***

No comments: