Wednesday, December 28, 2022

وجوه.. رواية في حلقات منفصلة (الحلقة الثالثة)

بينما كانت الباخرة النيلية تشق سطح النهر في نعومة ونسيم الصباح البارد ينساب حولها رقيقًا هادئًا وعلى ضفتي النيل تقبع شواهد القدماء تبهر السائحين وتجعلهم ينتقلون من جانب إلى جانب كالمجانين يلتقطون الصور ويطلقون صيحات الإعجاب جلس حامد على اريكة مخصصة لمحبي المتابعة من وضع الجلوس ثم تطلع الي شاشة هاتفه للمرة العاشرة منذ جلوسه وهو يسترجع احداث اليومين الماضيين...بدا مزاجه غير مستقرأ بالمرة وكأنه على وشك الانفجار خلال اليوم الأول من الرحلة والتي تنظمها الشركة للعاملين إلى الأقصر وأسوان.. كان قد رتب تكلفة الرحلة بالتعاون مع صندوق العاملين بالشركة بحيث تكون فارهة إلي أبعد الحدود وأتفق مع الصندوق أن يتحمل تسعون بالمائة من التكلفة فكان أن جاءت الرحلة على مستوى الخمسة نجوم وبالطبع كان متأكدا من حضورها فقد كان متأكدًا من انها لا يمكن ان تفوت مناسبة كتلك.. وبينما كان الزملاء يسددون الاشتراكات لدى الصندوق.. مر على مكتبها وهو يقول لها ان تستعد بملابس صيفية فالجو حار هذه الايام في الاقصر واسوان بادلت كلماته بابتسامة كشفت عن اسنان ناصعة من بين شفتان صغيرتان:

 - لكنهم يقولون إن الليل هناك ذا جو بارد للغاية..

أبتسم وهو يتطلع إليها وتخيل ليلها البارد هذا وهو يدفئه بضمها له حتى تحتاج إلى مكيف للهواء.. اعجبته الفكرة فاخذ يضحك في خفوت وهي تنظر له متعجبة فبادرها القول

- لن تكون هذه مشكلة فجميع الفنادق التي حجزناها مكيفة..

اكتفت بأن ابتسمت وغادر هو في طريقه لمكتبه.. في منتصف اليوم طلب جدول المشتركين من السيد عويس امين صندوق العاملين وتصفحها بعينه بسرعة فلم يجدها في القائمة.. بادر السيد عويس قائلا:

- هل تم تحصيل الاشتراكات من الجميع.. أومأ عويس مؤكدًا وهو يقول لقد راجعت الكشف بنفسي والمبلغ المحصل سيأخذه بسطاويسي إلى البنك باكرًا ليتم إيداعه في الصندوق.. شكره متجهمًا وقام من مكتبه الى منطقة المكاتب الخارجية فلمحها تثرثر مع زميلة تجاورها فأشار لها أن توافيه في مكتبه ففعلت..

- لماذا لم تسجلي في رحلة الاقصر واسوان؟!

ردت في تردد:

- أستاذ حامد لا أدري بماذا أجيب.. ولكني أحس وكأني إذا اشتركت في هذه الرحلة سيجعل جميع الزملاء والزميلات يتأكدوا ان بيننا شيئًا وانت تعرف انه منذ يوم الأوبرا وانت لم تبدِ أي رغبة في الخروج معي ويبدو ان مشاعرك مازالت مضطربة لذلك أفضل الا أشترك في هذا الرحلة حتى تعرف حقيقة مشاعرك نحوي..

رد حامد بغضب..

- كيف تقولين ذلك كنت انتظرك لتقرري امورك ولم أكن اريد ان أضغط عليكِ ولكن يبدو انى كنت مخطئًا وها انت تعتقدين انني لم أقرر طبيعة مشاعري نحوكِ..

ردت في قلق

 - استاذ حامد!! لو سمحت نحن في مكان العمل وارجو أن تخفض صوتك..

نظر لها حامد في ذهول وهو لا يتصور انها تحدثه بهذا الجفاء وخاصة بعدما ظن انها تبادله مشاعره.. أستدرك الموقف وقال بسرعة..

- شكرًا جزيلًا يا آنسة أسماء يمكنك أن تتجهي لمكتبك الآن..

أحمر وجهها بشدة وخرجت نحو طاولتها ولم تنبس ببنت شفة.. ازداد انزعاج حامد وهو يتذكر تلك اللحظات وبينما هو على هذه الحال جلست امرأة بيضاء تبدو في العقد الثالث من العمر شعرها الأحمر معقوص خلف رأسها ترتدى نظارة شمسية انتبه لها وهي تتمتم.. تبًا.. نطقتها بالإنجليزية فالتفت لها حامد في حدة وكأنها ظهرت من العدم.. فوجدها تحاول ان تُركِب شريحة ذاكرة في كاميرا بدت باهظة الثمن ويبدو انها لا تعرف كيف تستخدمها.. ابتسم رغمًا عنه متخيلًا هذه السيدة تشتري تلك الكاميرا من أحد المتاجر الفارهة وهي حتى لا تعرف كيف تشغلها بصورة صحيحة .. لم تطول تخيلاته كثيرًا فقد قطعها ومد يده والتقط الكاميرا من بين يديها.. هاتفًا..

 - اسمحي لي..

وبالطبع لم يكن ردها ذا قيمة إذ بدا فعلًا وببساطة الممارس للأمر وفتح الكاميرا والتقط الشريحة المطلوبة من بين يديها ودسها في مكانها لمناسب وضع الكاميرا بين يديها ثم قام من مجلسه متجهًا الى المطعم.. نظرت نحوه في عرفان وهي تقول بلغتها

- شكرًا انا أأ أ شكرًا لك سيد..

رد في بساطة

- حامد أسمى حامد.. والآن إذا سمحتي لي..

ومشى في ممر الباخرة حتى وصل إلى المطعم الذي يحتل طابق كامل من الباخرة بطاولاته الخمرية اللون ونوافذه التي على جانبي الباخرة تظهر الجو الخلاب للنهر.. بعدما تناول افطاره اتجه إلي حجرته وبينما هو يراجع شاشة جواله بحثًا عن رسالة منها سمع مذياع الباخرة الداخلي يعلن وصولهم إلي مدينة الأَقْصر وانهم سيرسون بعد ساعتين ليبدؤوا برنامجهم لليوم الأول.. بعد رسو الباخرة بدا الجميع بالتوافد على قنطرة النزول واتجهوا مباشرة إلى وادى الملوك.. وبينما ظل الجمع يجري في كل اتجاه يمم حامد سيرًا إلى مقبرة كان قد رأها في زيارة سابقة للأقصر وطفق ينزل درجها الطويل حتى وصل المقبرة المنحوتة في باطن الجبل.. وبينما هو يتابع على جدرانها نقوشها الهيروغليفية التي كان يميز بعض رموزها بالفعل سمع ما يشبه ارتطام فأسرع نحو الدرج فوجد امرأة منبطحة ارضًا يبدو انها سقطت من الدرج فأسرع أليها وحملها وهو يحمد الله انها ضئيلة الحجم وصعد بها الدرج وهي تئن واتجه بها نحو البوابة الرئيسية والتي يكمن بها طبيب الموقع الأثري الذي استوعب الحالة بمجرد رؤيتهم فطلب منه ان يزجيها على سرير الفحص ويخرج من الغرفة فخرج وانتظر حتى خرج الطبيب وهو يقول:

- حمدًا لله انها خفيفة الوزن فسقطة كالتي سقطتها كانت كفيلة بان تقضى عطلتها هنا في المشفى في قسم الكسور.. الآن يمكنك ان تأخذها وتخرج ولكن حاول ان تجعلها تستريح اليوم على الأقل ويمكنها مواصلة الاستمتاع بالمكان في الغد إن شاء الله..
شكره واتجه نحو الغرفة وهو يقول للسيدة التي تبين ملامحها لأول مرة فهي أوروبية بيضاء البشرة قصيرة ذات شعر قصير..

- هل يمكنك ان تمشى على قدميك الآن..

ألقى سؤاله بالعربية فبدا عليها عدم الفهم.. فأعاد عبارته بالإنجليزية.. فردت في امتنان..

- لا أعرف كيف أشكرك..

أبتسم بدوره وقال

- لا شكر على واجب..

 تعارفا بسرعة فقدمت نفسها باسم جوزفين وتحدثا بينما يعودان إلى مقر حافلات الباخرة كيف أنها سمعت قبلًا عن "هذا النوع من التصرفات في بلاد الشرق" قالتها وهي تشدد على حروفها وكأنها امر عجيب.. ثم أردفت بأنها لم تكن تعرف انها محظوظة كفاية لتقابل شخصًا يعاملها بهذه الطريقة وهو لا يعرفها.. قال لها وهو يبتسم من كلماتها

- يسمون "تلك التصرفات في بلاد الشرق" الشهامة

فكررت الكلمة وراءه بطريقة مضحكة جعلته يضحك فضحكت معه.. بعدما وصلوا إلى الباخرة اجتمع معظم روادها لتناول العشاء وبينما جلس يقلب في طبق حساءه وهو ينظر كل دقيقة تقريبا إلى شاشة هاتفه المحمول انتبه على صوت جوزفين وهي تقول في مودة..

- عفوًا يبدو لي انه ليس لديك رفيق للعشاء هل يمكنني ان أشاركك الطاولة..

لم يكن حامد يرغب بذلك وفى سره قال يبدو انها ستكون أمسية للثرثرة لكنه رد مباشرة في آدب

- بالتأكيد على الرحب والسعة..

وبعد ثوان من جلوسها وجدها تشير نحو ردهة المطعم.. فتوقع حامد شريكًا ثالثًا لوجبة الثرثرة ثم اقتربت امرأة تبينها حامد انها صاحبة الكاميرا والتي حييته في دهشه وهي تنظر لرفيقتها اسرعت وقدمتهما لبعض:

- سارة هذا هو مستر حامد الذي حكيت لك عنه قبل قليل والذي أنقذني عندما انزلقت قدمي في الوادي..

هنا ردت سارة ذات الشعر الأحمر:

- يبدو انى تشرفت بمعرفته قبلك يا عزيزتي فهو من حل مشكلتي مع كاميرتي هذا الصباح

نظر حامد في طبقه خجلًا فابتسمت المرأتين وقالت جوزفين في لكنة ركيكة جدًا..

- الشهامة..

هنا أفتر ثغر حامد عن ضحكة تبعها التعارف الطبيعي وبينما انتهى الثلاثة من عشاءهم ألحت السيدتان عليه أن يوافيهما في ملهى السفينة والذي لم يكن حامد راغبًا في ارتياده لأنه لا يحب الصخب والازدحام.. وبمجرد استقرارهم على جلسة عربية ارضية بدأت فقرات السهرة فوجئ حامد بان المكان ليس صاخبًا وانه تم اعداده لمنح بعض الخصوصية للجماعات الجالسة وبينما استلقت جوزفين على ظهرها تقريبا مريحة ساقها فوق أحدي الطنافس.. وهى تحاول مجاراة طبيعة المكان جلست سارة أمام حامد وكان كأنه لأول مرة يلاحظ جسمها المتناسق وشعرها الأحمر ذا اللون المحبب بالنسبة له ولم تنس عينيه ان تعاين تفاصيلها التي فشل ردائها أن يخفيها وبينما كانا يتابعان فقرات السهرة ظهرت راقصة شرقية تبدو في العشرينات ذات قوام افروديتى ترتدى غلالة لم تكن تخفى شيئًا تقريبا وطالت وصلتها لنحو عشر دقائق اسكرت فيهم عيون المتفرجين وبينما يتابع حامد الراقصة المحترفة بدا على سارة انها ستستسلم للنوم لأنها أراحت رأسها على كتفه وهى تتابع الراقصة التي اشعلت في الصالة جو من الأثارة وبينما سارة ملاصقة له كان يغالب شعوره بكافة الوسائل فتارة يحدق في السقف وتارة ينظر من نوافذ الباخرة يتابع الانوار التي تظهر في الافق ولكن الطامة كانت حين ارخت سارة يديها حرفيًا عليه فانتفض كالملسوع وضمت هي يدها في حرج واضطر ان يعتذر للسيدتين ويقوم الى غرفته مسرعًا..

فتح هاتفه للمرة الالف فلم يجد رسالة منها وكاد أن يهاتفها ليخبرها انه قد اشتاق إليها وانه يريد ان يعود فقط ليراها.. انتابه الغضب كيف لها ان تتركه عشرة ايام لا يراها ولا تهاتفه او حتى ترسل له رسالة.. وبينما هو يجتر مشاعر الضيق تلك سمع الطرقات الخفيفة على الباب.. فهتف ظانًا انها خدمة الغرف

- تفضلي الباب مفتوح..

لم يحدث شيء فانتبه انه ألقي رده بالعربية فأعاده بالإنجليزية.. لم يكن على الباب سوي سارة التي كانت تقف والخجل يملئ عينيها وهى تقول انها آسفة عما بدر منها في الملهي وأنها لم تكن تقصد و انها انساقت للموقف المحيط فلم تدرى لم فعلت ذلك.. بدا متفهمًا فوقف واتجه إليها حيث تقف وهو يجيب

- لا عليك سارة لم يكن الأمر يستحق الاعتذار ولكنى مشغول البال قليلاً.. اجابته:

- لقد لاحظت ذلك من تطلعك لهاتفك كثيرًا ولكني اتعجب أن يكون الأنسان في رحلة ممتعة كتلك التي نحن فيها ثم يجعل أشياء أخري تشغل باله أو تضايقه..

كانت تتكلم وهي تقترب منه وأحس بها وهي تقف قبالته تمامًا وانفاسها تلفح بشرته وندت منه مضطرًا آهة قصيرة.. هنا توقف الزمن في عقله لحظة فحاول ان يتجاوزها ليخرج من الغرفة التي ارتفعت درجة حرارتها للغاية وهو يحاول ان يتغلب على الفكرة التي ترسخت في ذهنه ان بقي ثانية واحدة اخري فلن تسلم منه هاته المرأة ولن يسلم هو منها فسحبها من يدها وصعد بها إلى سطح الباخرة حيث سكون الليل وتبدل الجو إلى البرودة فاقتربت من ظهر حامد واحتضنته وهي تقول

- انا أيضًا تركت ورائي امورًا كثيرة سأحسمها عندما اعود إلى بلادي لكن الآن دعنا نستمتع بتلك الأيام سويًا..

نظر لها وعقله يتصارع به ألف فكرة وامسك بكفها وهو يبعدها عنه بلطف وأخبرها ان الوقت قد تأخر وطلب منها أن تدعه يخلد للنوم وفى الغد يكون لهم شأن آخر.. وفعلا قبلها على خدها في بساطة وتركها واتجه إلى غرفته.. واستغرق في النوم.

***


No comments: